لم يمض كثير وقت على اتفاق غزة، لتنفيذ ما سبق وتم التوقيع عليه من اتفاقيات حملت اسمي القاهرة والدوحة، غير أن ثلاث اتفاقيات أو وثائق تتصل كلها بملف المصالحة ليست كافية لتوفير قناعة لدى الرأي العام الفلسطيني، بأن هذه المرة مختلفة عن سابقاتها، وأن احتفالية غزة، تختلف عن الاحتفاليات التي سبقتها من حيث قابلية التنفيذ.
كثرة خيبات الأمل، والتصريحات الإيجابية، والتأكيد الذي لا يتوقف من قبل الطرفين على أنهما ملتزمان بالمصالحة، وبأنها خيار استراتيجي، على اعتبار أن إسرائيل هي صاحبة المصلحة في استمرار الانقسام، الكثير من كل ذلك، دون أي تغيير حقيقي على أرض الواقع، ترك لدى الجماهير الفلسطينية حالة من عدم الثقة، والاحباط تصل أحياناً إلى أعمق مستويات اليأس.
لقد بدا واضحاً، أثناء وجود وفد منظمة التحرير الفلسطينية في غزة، أن الناس غير مهتمين بما يجري من حوارات، وتصريحات، واستقبالات، ومؤتمرات صحافية، أو نتائج، ولا أبدوا اهتماماً بعد ذلك، فيما ظل السؤال حائراً يتردد على ألسنة الجميع: هل فعلاً سيصدقون هذه المرة، وهل فعلاً ستكون هناك مصالحة.
حتى النخب السياسية، والثقافية والمجتمعية، انقسمت بين متفائل ومتشائم أو متشائل، ولدى كل فئة من الأسئلة، والوقائع، التي تدعم وتبرر استنتاجاتها خصوصاً في ضوء الوقائع الصعبة، التي فرضتها السياسات، والإجراءات الانقسامية خلال سنوات الانقسام السبع.
الأسئلة مشروعة ومنطقية، ولا ننصح القيادات السياسية بتجاهلها، أو إهمالها، لما لها من تداعيات وتأثيرات، على قادم أيام السياسة الفلسطينية، وصُنّاع القرار فيها سواء في حالة نجاح أو فشل المصالحة إذ من غير الممكن تجاهل الحاضنة الشعبية ومدى تأثيرها على صناعة القرار. الجمهور الفلسطيني ليس قطيعاً، وليس رعاعاً، ولا هو يتصف بالسذاجة، وقد أثبتت سنوات الانقسام ذلك، إذ لم تخطئ الجماهير تحديد البوصلة ودائماً باتجاه الاحتلال، وليس باتجاه الأجندات والتناقضات الداخلية، الأمر الذي وقعت فيه الفصائلية الفلسطينية بدليل وقوع الانقسام، واستمراره رغم وحشية المخططات الإسرائيلية.
دون تطيُّر، لا بد من ملاحظة أن الدوافع التي تقف وراء اتفاق غزة، مختلفة نوعياً عن تلك التي كانت تقف وراء اتفاقيتي القاهرة والدوحة ما يسمح بالاستنتاج، بأن اتفاق غزة، هو اتفاق الضرورة، وهو اتفاق الممر الوحيد المتاح، كمخرج لطرفي الانقسام كل من أزمته التي لا تزال تتفاقم على نحو متسارع ومأساوي.
عند مراجعة أسباب ودوافع وقوع الانقسام قبل سبع سنوات، وندعم ذلك بمجريات الأحداث خلال فترة الانقسام الطويلة، سنقف على مشاريع سياسية، واستهدافات متباينة، لكن الأيام، وتطورات الأحداث في الإقليم، والعالم، وضعت هذه المشاريع أمام كتل إسمنتية كبيرة من الصعب تجاوزها.
سنترك مهمة فحص تلك الأسباب والدوافع والاستهدافات والمراجع للتاريخ، ذلك أن أي طرف لن يعترف بحقيقة الأسباب التي دفعته لسلوكه، بما أن ذلك ينطوي على إدانات صعبة، لكن الخلاصة، هي في أن التجربة تقول، بفشل أي وكل برنامج فصائلي، يتجاهل الكل الوطني، ويتجاهل الوطنية الفلسطينية.
الظروف، وفشل التجارب الفصائلية الفئوية، هم الذي أرغمت الطرفين على الجلوس إلى طاولة متواضعة في غزة، ولأن يتم الاتفاق خلال ساعات قليلة، لم تكن تكفي في أوقاف سابقة لمناقشة ملف واحد من ملفات المصالحة ولكن، أيضاً، لكي تذكر بمكانة غزة التاريخية إزاء حماية المشروع الوطني والنضال الوطني التحرري الفلسطيني.
غزة لم تكن يوماً لفصيل واحد، لم تكن لفتح، ولا للشعبية أو الديمقراطية، وهي بخلاف ما يعتقده بعض أشقائنا العرب، لم تكن لحركة حماس، ولا حركة الجهاد الإسلامي، وانها جزء أصيل من الوطن الفلسطيني وهي مطوبة للوطنية الفلسطينية الجامعة، التي تمثلها منظمة التحرير من موقعها، كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني.
إذا كان الأمر على هذا النحو، فإن حظوظ نجاح المصالحة هذه المرة، هي أفضل من كل المرات السابقة، وتستحق أن تحتشد الجماهير الفلسطينية والنخب والمؤسسات الوطنية، خلفها من أجل حمايتها، ومراقبتها، وتصحيح مسارها حين يقع أي خلل واعوجاج، وحين تتعرض للمؤامرات والعدوانات الإسرائيلية التي تستهدف إفشالها.
في هذه المرة، تقف إسرائيل وحدها معزولة من بين دول العالم، لتعلن رفضها القاطع لهذه المصالحة، واستعدادها لعمل كل ما تستطيع من أجل إفشالها، وإبقاء حالة الانقسام، بما أنها أحد أهم العوامل التي تساعد إسرائيل على مواصلة تنفيذ مخططاتها.
الموقف الإسرائيلي من المصالحة، ينبغي أن يشكل معياراً لمواقف وسلوك الفصائل والأفراد، فلو أن المصالحة كانت لا تعني شيئاً لإسرائيل لما جُنَّ جُنون ساستها وصحافييها ومثقفيها.
كان من الطبيعي أن يرحب العرب بالمصالحة، وأن ترحب بها الدول التي تناصر الحق والحقوق الفلسطينية، ولكن اللافت أن تحظى المصالحة بتأييد وترحيب الاتحاد الأوروبي، وأن تغييراً في الموقف الأميركي من المصالحة مختلف عن الموقف الإسرائيلي.
يمكن تصنيف الموقف الأميركي على أنه متحفظ لا يرفض ولا يقبل، وأنه يترك مسألة القبول أو الرفض إلى وقت لاحق للحكم على السلوك والممارسة وليس الأقوال.
لا نرغب في المرور على الاختبارات ولو أنها قليلة، ولكنها مهمة، التي مرّت بها أجواء المصالحة منذ توقيع اتفاق غزة، وتؤكد إيجابية التوجه نحو التنفيذ والالتزام بما تم الاتفاق عليه، ولكننا نقول إن المصالحة هي عملية طويلة تحتاج إلى وقت لا يكون أقل من الوقت الذي استغرقته عملية الانقسام حتى نستعيد الوحدة وإعادة بناء وترتيب البيت الفلسطيني، فضلاً عن أن النجاح له ثمن، من الضروري الاستعداد لدفعه، بما أنها واحدة من معارك مجابهة الاحتلال ومخططاته.