Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

والآن مَن يُحاصِر مَن؟

فلسطين اليوم

بعد تأخير طويل، ملأت كلّ دقيقة منه، دماء ودموع عشرات آلاف الفلسطينيين واللبنانيين، نجحت المحكمة الجنائية الدولية في أن تتجاوز المصالح الذاتية لقضاتها، وتأخذ قرارها بالتصديق على طلب المدّعي العام، بإصدار مذكّرات اعتقال بحقّ بنيامين نتنياهو ووزير جيشه السابق يوآف غالانت.
كان مرور كلّ هذا الوقت، قد شكّل مأخذاً سلبياً على المحكمة التي استعجلت كثيراً في إصدار أمر اعتقال بحقّ الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين، في حالة تفضح سياسة الكيل بمكيالين التي تنتهجها الولايات المتحدة الأميركية، والدول الغربية.
نقدّر بطبيعة الحال الأعذار التي قد يقدّمها قضاة المحكمة ومدّعيها العام، الذين تعرّضوا خلال كلّ هذا الوقت لضغوط هائلة وتهديدات صريحة باتخاذ عقوبات ضدّهم في حال اتخذوا مثل هذا القرار التاريخي.
هم لا يزالون تحت ضغط التهديدات الأميركية والإسرائيلية، التي تتوعّدهم بعقوبات صارمة، ولكن كما هي نهايات الأشياء فلا يحقّ إلّا الحقّ مهما تأخّر أمده.
فلقد أمعنت دولة الاحتلال في عنادها وغيّها وبغيها، ومواصلتها ارتكاب المجازر والإبادة الجماعية، وها هي تنقلها إلى لبنان الذي يتعرّض لشيءٍ ممّا كابده ويكابده سكّان قطاع غزّة.
ظنّت دولة الاحتلال أنّها ستكون هذه المرّة كما كلّ مرّة، قادرة على التهرُّب من استحقاقات المساءلة وسيف العقوبات، وكان يمكنها أن تنجح بفضل الحماية الأميركية الدائمة لولا أن ما ترتكبه من مجازر بحقّ القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، ومنظومة القيم الإنسانية، قد فاق كلّ ما يمكن أن يرد على عقل إنسان مجنون وليس فقط إنساناً سوياً.
إصدار مذكّرات الاعتقال، يشكّل بداية ملفّ مفتوح، على مزيدٍ من التحقيقات التي لا تزال جارية، وقد تطال العقوبات، مسؤولين سياسيين وأمنيين وعسكريين إسرائيليين.
بل إن بعض الصحف العبرية كانت قد أشارت إلى احتمال صدور مذكّرات توقيف بحقّ ضباط وجنود متهمين بارتكاب مجازر إبادة جماعية سواء باستخدام الذخائر، أو عَبر التجويع والتعطيش واستهداف المنظومات الصحية، ومنظومات الدفاع المدني.
وبرأينا فإنّ أهمية أوامر التوقيف بحقّ نتنياهو وغالانت تتعدّى احتمالية القدرة على تنفيذ الأمر، حيث سيتجنّب الاثنان السفر، أو المرور عَبر أجواء الدول الملتزمة بقرار المحكمة.
المحاكمة التي جرت تتجاوز البُعد الشخصي للمتهمين، إلى محاكمة الدولة العبرية كدولة بكل مؤسّساتها سواء المشاركة في حرب الإبادة، أو التي حملت هؤلاء إلى السلطة، وأعطتهم التفويض بذلك.
دولة الاحتلال إذاً في قفص الاتهام، لدى "الجنائية الدولية" وهي كانت منذ أشهر في قفص الاتهام لدى "العدل الدولية" التي يترتّب عليها بعد وقتٍ لن يطول أن تصدر هي الأخرى أحكامها بشأن تهم الإبادة الجماعية التي ترتكبها عن سابق قصدٍ وترصُّد.
الحرب مستمرّة، ويستمرّ جيش الاحتلال في ارتكاب المجازر في غزّة، والضفة الغربية، ولبنان، من دون أمل في تحقيق انتصارٍ حاسم أراده نتنياهو وائتلافه "اليميني" المتطرّف والفاشي.
مُحاصَر نتنياهو داخلياً، حيث تنتظره المحكمة بشأن قضايا الآلاف، ومحاصر حيث انفجرت في وجهه، ملفّات التسريبات التي تشهد فصولاً جديدة، وهو محاصر من قبل القضاء من ناحية وإيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش من ناحية ثانية.
وهو الآن وكيانه المحتلّ محاصرون من قبل المجتمع الدولي، حيث تحوّلت الدولة الديمقراطية المزعومة، إلى دولة منبوذة، فقدت سرديّتها وفقدت هيبتها ومكانتها، حتى في المجتمعات التي عبّر زعماؤها عن الوقوف إلى جانبها منذ بداية الحرب الإبادية.
هل نعطي مثالاً على ذلك، ليس حصرياً، في العلاقة المتردّية بين دولة الاحتلال وفرنسا، والتي بلغت حدّ رفض نتنياهو الدور الفرنسي في التسوية الجارية بشأن لبنان، أو مشاركة فرنسا في لجنة الإشراف.
"العالم" الذي توحّد إلى جانب حكومة نتنياهو الفاشية، بدعوى حقّها في الدفاع عن نفسها، ها هو ينقسم حول استمرار الحرب التدميرية، وينقسم بشأن قرار "الجنائية الدولية".
وباستثناء أميركا، وعدد قليل من دول أوروبا الغربية، فإنّ المجتمع الدولي موحّد تقريباً خلف قرارات المحكمة الجنائية.
المسؤول عن السياسة الخارجية الأوروبية، جوزيف بوريل الذي تنتهي ولايته هذا الشهر، شدّد على أنّ كلّ دول الاتحاد الأوروبي وهي منضمّة إلى معاهدة روما، المنشئة للمحكمة ملزمة بقراراتها وبحماية القانون الدولي.
نتنياهو سبق له أن اتهمّ بوريل بمعاداة السامية، هذه التهمة المتبقّية في جعبة دولة الاحتلال وحلفائها التي ترمي بها كلّ من انتقد أو عارض سياسة دولة الاحتلال.
سقطت هذه التهمة منذ كثير من الوقت حين قامت دولة الاحتلال بإلقاء هذه التهمة على الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، ومجلس حقوق الإنسان، واحتجاجات طلبة الجامعات، وكلّ المؤسّسات التخصّصية والشخصيات الاعتبارية المتحدثة باسم الأمم المتحدة.
لم يبقَ في هذا العالم من يستخدم هذه التهمة المفضوحة سوى أميركا، وبعض المدافعين عن سياسة الائتلاف الصهيوني المتطرّف.
دماء الفلسطينيين واللبنانيين التي نزفت ولا تزال لم تذهب هدراً، فها هي هذه الدماء تتبختر في شوارع وأزقّة أميركا وأوروبا الغربية، وعواصم العالم، تهتف بالحرّية لفلسطين، وتطالب بوقف الدعم لحرب الإبادة الجماعية.
أظنّ أن نتنياهو في حيص بيص من أمره، لم يعد يملك مخرجاً يحفظ ماء وجهه، فلا انتصار، ولا سيطرة على غزّة، أو لبنان، ولا وقف للحرب الإجرامية، فإن وقفت هو مهزوم، وإن استمرت، استمرّ وتعمّق مأزق دولة الاحتلال وما من قوّة قادرة على إنقاذه، بريئاً حتى لو أراد صاحبه دونالد ترامب أن يساعده في تحقيق ذلك.