أخيراً وليس آخراً، تكللت المفاوضات بين إيران ومجموعة ستة زائد واحد، بالنجاح في التوصل إلى اتفاق ماراثوني، بعد نحو عشر سنوات من الانشغال، بما يعرف بالملف النووي الإيراني. الاتفاق ليس نهائياً، وإنما يشكل مرحلة انتقالية
تتوقف مآلاته على مدى التزام كل طرف بما ترتب عليه من التزامات، ما يعني أن الفترة التي سيغطيها وهي ستة أشهر، قد تشهد جدالاً لا يقل احتداماً عما سبق، بشأن آليات، وتفسيرات، وطرق تنفيذ الالترامات من قبل الطرفين.
فالاتفاق على الأرجح أنه لم ينه، الطموح الإيراني، ببلوغ الأهداف التي تقف وراء اهتمام إيران بامتلاك الطاقة النووية، وتنمية خبراتها في هذا المجال، والاتفاق أيضاً لم ينه المخاوف الأميركية والأوروبية، إزاء النوايا الإيرانية، ولا يصلح البتة في تهدئة المخاوف والتهديدات الإسرائيلية.
من حيث الجوهر، فإن ايران لم تتغير لا فيما يتعلق بمرجعية وسلطة القرار فيها، والتي يمسك بها رأس الثورة الايرانية الامام علي خامينئي، حتى لو تغير الرؤساء ولا تغيرت رغبة ايران ومساعيها في توسيع نفوذها، وتعزيز حضورها الاقليمي والدولي، ولامتلاك القوة اللازمة لخوض المنافسة على المصالح والنفوذ.
الولايات المتحدة هي التي تغيرت، فبعد الازمة الاقتصادية المالية التي ضربت النظام الرأسمالي العالمي منذ العام ٢٠٠٨، وبعد الحروب الدونكيشوتية التي خاضتها في اكثر من مكان خصوصاً في الشرق الاوسط وعلى حدود ايران الشرقية والغربية، بعد كل ذلك لم تعد شعوب الدول الرأسمالية، مستعدة لخوض المزيد من الحروب الفاشلة، وتكبد المزيد من الاثمان على حساب دافعي الضرائب.
على ان هذا التغيير الذي تشهده الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون لم يصل الى حد التساهل ازاء امتلاك دولة بحجم ايران، وموقعها الاستراتيجي للاسلحة النووية، ولكنها لا تتمنى ان تضطر لاستخدام القوة ايضاً بسبب التداعيات والابعاد الخطيرة التي تترتب على هذا الخيار.
لقد اثبتت السياسة الايرانية براعتها، وحكمتها، وقدرتها على المناورة وكسب الوقت وهي لم تقدم كل ما قدمته من جهد، وموازنات ضخمة، ولم تتحمل ما تحملته من اعباء جراء الحصار، وجراء تخصيص موازنات كبيرة للتسلح، حتى تتخلى عن كل ذلك، مقابل فقط تخفيف الحصار وليس رفعه.
هكذا يمكن اعتبار اتفاق جنيف مجرد تحويلة مؤقتة، حين بلغ الاحتقان عنق الزجاجة، وحتى تكسب المزيد من الوقت، فيما يعد من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، ذريعة، وسبباً كافياً ومقنعاً للتهرب من خيار الحرب.
هكذا وقع بالنسبة للملف السوري، فقبل ان يعطي الرئيس الاميركي باراك اوباما الاشارة، لاطلاق الخيار العسكري، على خلفية اتهام النظام السوري باستخدام السلاح الكيماوي، قبل ان تصدر الاوامر، تقدمت روسيا باقتراحها لتسوية هذا الملف، بما يعطي الافضلية للنظام السوري، ويمنحه المزيد من الوقت لحسم الامور على الارض، وما ادى الى اضغاف وتفتيت المعارضة من الناحية الاخرى.
تكسب اسرائيل من الاتفاق الذي يتصل بالملف السوري، حيث انها تحصل على انجاز حين يجري التخلص من ترسانة الكيماوي السورية، ودون ان تدفع اي ثمن مقابل ذلك، اما فيما يتعلق بالاتفاق حول الملف النووي الايراني، فإن على اسرائيل ان تدفع، ربما اكثر مما كسبته من ملف الكيماوي السوري.
اسرائيل اعتبرت الاتفاق خطأ تاريخياً، واضطرت لأن تبلغ تهديداتها بالاستفراد بتوجيه ضربة للمنشآت النووية الايرانية، كان يمكن ان تخلط الاوراق، او ان تعطل التوصل لاتفاق لو انها وقعت قبل يوم السبت الماضي.
الآن لا تستطيع اسرائيل ان تفعل ما كانت تهدد بفعله، اذ ان عليها في هذه الحالة، ان تتحمل المسؤولية عن مجابهة غضب حلفائها الغربيين الذين ابرموا الاتفاق مع ايران.
خلال الاجتماع الوزاري يوم امس، تعرض رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو لانتقادات شديدة من بعض زملائه، فلا هو استطاع ان يمنع الوصول الى اتفاق في جنيف، ولا هو حافظ على حسن العلاقة التي توترت مع الولايات المتحدة خصوصا.
اسرائيل التي تعيش مرحلة لا تحسد عليها، بسبب تطرفها ورعونتها واستهتارها حتى بحلفائها، لا تستطيع مغادرة طبيعتها العدوانية، والارجح ان تلجأ الى تخريب الاتفاق الايراني الغربي، وان تعيد خلط الاوراق في المنطقة من خلال فتح جبهات عدوانية، في مواجهة ما تعتبره النفوذ الايراني، الذي سينشط بطرق اخرى في المنطقة، لقد تزايدت فرص ارتكاب عدوان اسرائيلي على حزب الله ولبنان، على قطاع غزة، بدعوى مواجهة التهديدات "الارهابية" التي تصدر من حلفاء ايران، وعلى نحو غير مباشر، لاعتراض السياقات التي تتجه اليها، العلاقات الدولية.
في هذا المجال تأتي سوابق الاتفاقات الدولية بشأن كيماوي سورية، ونووي ايران، تتقدم نموذجاً فاعلاً وناجحاً في مواجهة العديد من الملفات الدولية الصعبة، والتي بدت لبعض الوقت وكأنها تستعصي على الحل.
قضية الصراع الفلسطيني الاسرائيلي ربما تكون ام الازمات والملفات التي تستعصي على الحل في ظل ظروف دولية سابقة، كانت خلالها الولايات المتحدة تتسيد النظام الدولي، ولكنها الآن لم تعد كذلك، وفي ظل تمرد اسرائيلي يستند الى قوة عسكرية لا تضاهيها في المنطقة قوة اخرى.
يلفت النظر تصريح الناطق من الرئاسة ابو ردينة حين يعتقد بأن الاتفاق بين ايران والدول الغربية سيساعد في دفع عملية السلام التي تراوح مكانها رغم مرور اربعة اشهر على استئناف المفاوضات.
نفهم ان الاتفاق يشكل سابقة، قد تدفع دول الرباعية الدولية، وهي ذاتها اضافة الى الامم المتحدة التي ابرمت الاتفاق مع ايران، نحو التقدم بحل لدى الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي، لن يكون بمقدور احدهما رفضه، او تجنب دفع اثمان كبيرة في حالة مواجهته.
اذا كان مثل هذا الاحتمال وارداً، فإن ذلك لا يعني أن اسرائيل، ستغير من طريقتها في التعامل مع المفاوضات، نحو تسهيل التوصل الى اتفاق مع الفلسطينيين، افضل من اتفاق يفرض عليها، فالارجح ان اسرائيل ستعمل على خلط الاوراق، وتوريط الولايات المتحدة، ومعها المجتمع الدولي في معارك جانبية، حتى تقطع الطريق على مثل هذا الاحتمال.