لا تستطيع "إسرائيل" مواصلة مناوراتها الميدانية والسياسية، التي تستهدف إفقاد الجهد الدولي والعربي، كل قيمه فيما يتعلق بالمفاوضات التي ينبغي أن تنطلق في القاهرة، لمناقشة المبادرة المصرية.
العالم محتشد في القاهرة، منذ يوم السبت الماضي، بما في ذلك الوفد الوطني الفلسطيني الموحد، الذي لم يستكمل حضور كل أعضائه خصوصاً من قطاع غزة، ولكن "إسرائيل" تواصل تجاهل الأمر، وتلوذ بالصمت إزاء قرارها، بشأن إرسال وفد، أو ترك الجميع ينتظرون.
على كل حال، هذا العالم الذي يحتشد في القاهرة، من مندوب الأمين العام للأمم المتحدة، إلى وفد الولايات المتحدة، ووفد الاتحاد الأوروبي، إلى توني بلير ممثل الرباعية الدولية، كل هؤلاء متواطئون مع السياسة المراوغة التي تتعمدها حكومة بنيامين نتنياهو.
كل هؤلاء، ومرؤوسوهم ينبغي أن يخجلوا من أنفسهم، وأن يكفوا عن الادعاء بأنهم، حراس الحرية والديمقراطية، وحماة حقوق الإنسان أو أنهم يملكون ناصية الحضارة، ذلك أنهم مشاركون في الجرائم التي ترتكبها "إسرائيل" بحق الفلسطينيين، خصوصاً في قطاع غزة.
ومعلوم أن هذه الجوقة من المسؤولين الكبار، يقتفون أثر الراعي الأميركي الذي ما أن تفرض عليه، طبيعة الجريمة، أن يتخذ موقفاً معقولاً حتى يعلن عن ندمه، فيعود لتبرير تلك الجرائم، ومنح مرتكبيها الحماية والدعم.
بعد مكالمتين خلال الأسبوع الماضي، أجراهما الرئيس الأميركي باراك أوباما مع رئيس حكومة الاحتلال، طالبه فيهما بوقف إطلاق النار فوراً ودون شروط، عاد ليهاتفه داعماً الجهد الإسرائيلي، وعاد ليفتح مخازن الجيش الأميركي، لكي تأخذ منها "إسرائيل" ما تريد من ذخائر، هي التي تسقط على رؤوس المدنيين من أطفال ونساء.
بعد أن اكتشفت "إسرائي"ل خطأها بالإعلان المبكر عن أنها توشك على إنجاز مهمتها بتدمير شبكة الأنفاق العابرة للحدود، وبأنها لا تحتاج لأكثر من يومين حتى تنجز عملها، سعى نتنياهو لشراء المزيد من الوقت لإكمال مهمة لن تنتهي في كل الأحوال.
حصل نتنياهو على أكثر من أسبوع، منذ المهاتفة الأولى له من قبل الرئيس الأميركي، وها هو يعود لطلب المزيد من الوقت، لاستكمال مهمة تدمير الأنفاق في منطقة رفح، وشرق الشجاعية، وفي بيت حانون ووسط قطاع غزة.
في السياق ذاته، استخدمت "إسرائيل" ذريعة العملية التي نفذتها المقاومة في منطقة كرم أبو سالم، وأدت إلى مقتل ثلاثة ضباط وجنود، صباح الجمعة الماضي لكي تتنصل من التهدئة لثلاثة أيام التي أعلنتها الأمم المتحدة وقبلها الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي.
اخترعت "إسرائيل" قصة اختطاف أحد ضباطها، لتصعد حملتها، مركزة على منطقة رفح، كل منطقة رفح، ما وفر لحلفائها الدوليين فرصة تجاوز الخجل والتحفظ إلى إظهار الدعم الكامل لما تقوم به "إسرائيل".
العارفون يعتقدون أن "إسرائيل" كانت لتخترع أية ذريعة للتملص من الالتزام بالتهدئة، فهي بالإضافة إلى حاجتها لمزيد من الوقت، ثمة ما يدفعها لاقتحام رفح، وارتكاب مجازر فيها دون أي مبرر، فإذا كانت الأنفاق التي تبحث عنها تقع في المناطق الحدودية، فإن التساؤل هو ما علاقة هذه الأنفاق بوسط رفح، الذي يبعد عن الحدود الشرقية حوالي ثمانية كيلومترات؟
تظاهرت "إسرائيل" بأنها قد تبدأ وبالتدريج، إعادة انتشار قواتها، خارج الحدود، وأوحت بالسماح لمن غادروا منازلهم في بعض المناطق بإمكانية العودة إليها، لكنها واصلت القصف الجوي والبري، وواصلت عملياتها في منطقة رفح، حتى بعد أن قررت، أن الضابط الذي ادعت اختطافه، قد وجد مقتولاً.
من الواضح أن الحكومة الإسرائيلية لن ترسل وفداً، إلى القاهرة للبحث في إمكانية تحقيق اتفاق ثابت للتهدئة، إلا بعد أن تستكمل مجازرها وتدميرها المنهجي لمنطقة رفح، وبهدف تدمير كل ما يقع تحت يدها من أنفاق في كل الاتجاهات، وقتل أكبر عدد ممكن من الناس.
إذا كان العالم الذي يحتشد في القاهرة، مستعد لتحمل المزيد من الإهانات والمزيد من التجاهل من قبل حكومة الاحتلال، فإنه ينبغي عليه أن يدرك أن المقاومة وهي صادقة ستتكفل، بأن تبقي النار مشتعلة حتى يرضخ نتنياهو، ويرضخ حلفاؤه، لمطالب الشعب الفلسطيني.
إن غزة، التي زادها الدمار دماراً لا يمكنها أن تعيش في زمن الجهالة والظلام والتخلف.
إذا كان لا بد من الذهاب إلى خيار شمشون فإن معظم سكان القطاع، الذين طالتهم يد الوحشية الإسرائيلية بهذا القدر أو ذاك، فإنهم سيذهبون.
لم يبق لدى الناس في قطاع غزة ما يخسرونه بعد كل الذي جرى ويجري.
إذا كانت الأرقام المعلنة من خلال وزارة الصحة الفلسطينية تتحدث عن حوالي ألف وسبعمائة شهيد أو أكثر، وما يقرب من تسعة آلاف جريح، فإن توقف القصف الوحشي الإسرائيلي سيبين أن المحصلة أكبر من ذلك، بكثير، ثمة جثث لا تزال تحت الأنقاض لم تتمكن طواقم الإنقاذ من الوصول إليها، وثمة جثث في الأنفاق، وأخرى في المناطق التي لم يخلها الجيش الإسرائيلي.
خمس وخمسون مؤسسة ومصنع إنتاجي جرى تدميرها بالكامل، وأكثر من خمسين ألف وحدة سكنية تضررت كلياً أو جزئياً، حتى لم تعد صالحة للسكن.
هذا ليس كل شيء، وكل شيء في رقبة وعلى مسؤولية المجتمع الدولي، الذي يعطي المزيد من الفرص، للمجرم الإسرائيلي، الذي ينجح في كل مرة في الإفلات من العقاب.