عنيدة الأحداث والوقائع، حين تعبّر عن نفسها بقوة، لا تخطئها العيون السليمة، لكن الأكثر عناداً، وكفراً، الأوهام والتخيلات الخاصة، والذاتية. كفعل موضوعي يمكن للذوات الإنسانية،
أن تخضعها لقانون النسبية، فيكون الجميل، بشعاً، والخير شراً مستطيراً، بينما تتحصن الأوهام في عقول أصحابها، لتتخذ بعداً أخلاقياً، لا يمكن التخلص منها إلاّ بالتخلص من الذات التي تخلقها.
الإرهاب الصهيوني، الأسود، الذي تشنه "إسرائيل" على الشعب الفلسطيني ووقائع فصوله الجارية في قطاع غزة، هذا الإرهاب حقيقة، وحقيقة فاجرة، والحكم عليها، ليس وهماً، أو إسقاطاً ذاتوياً، ومن يقول غير ذلك، فليذهب إلى العلم، وليجر أبحاثاً أو دراسات، أكاديمية مستفيضة، وفق معايير القانون الدولي.
والإرهاب الصهيوني مؤسس على العنصرية، والتمييز والكراهية للعرب لأنه يستند إلى مقولة شعب الله المختار، ولأن ثمة من قال ممن ينتمون إلى نخبة شعب الله المختار، بأن العربي الجيد هو العربي الميت. يبدو أن علينا التفكير، أحياناً في هذه المقولة، فأحياناً يكون الأحياء، أسوأ من الأموات، وان السابقين أفضل من اللاحقين، ألا يلجأ الكثيرون منا إلى استدعاء الماضي التليد، حين تعوزنا، وقائع، وأبطال، نرغب في أن يسعفونا في تنمية مشاعر الفخر والاعتزاز، والكرامة؟
ليس غريباً أن يجاهد عشرات الملايين من أجل عودة الخلافة الإسلامية، والعودة إلى السلف الصالح، إلى ما قبل ألف وأربعمائة سنة، وليس غريباً أن نستدعي أبطالاً مثل خالد بن الوليد، والظاهر بيبرس، وقطز، وصلاح الدين، وعبد الناصر، حين لا توفر لنا وقائع الحاضر، ما يسعفنا على إحياء الأمل فينا. وليس غريباً أن نظل نستدعي كعرب، علماء الأزمنة الغابرة، أمثال ابن سينا وابن الهيثم، وابن خلدون.. وأغلبهم ليسوا عرباً، للمفاخرة بهم أمام مئات بل آلاف العلماء الذين يقدمون خدمات هائلة للبشرية. الإرهاب الصهيوني ظاهر بتجلياته على جلود البشر والشجر والحجر، ظاهر للأعمى والبصير، وظاهرة نتائجه، بعمليات القتل الجماعي، البشع، الذي تمارسه كل صنوف الأسلحة الإسرائيلية. مجزرة الشجاعية، ليست الأولى، ولا هي الأخيرة، إذ تذكرنا مشاهدها فعلاً بمشاهد مجزرتي صبرا وشاتيلا. قائمة المجازر الإسرائيلية التي يبررها خطاب الدفاع عن النفس، تطول. فالناس في قطاع غزة، لم ينسوا، مشاهد ووقائع المجازر التي ارتكبتها "إسرائيل" عام 2008 وعام 2012. آلاف الضحايا بين شهداء وجرحى، لا أقل من نصفهم من الأطفال والنساء والشيوخ، وأغلبيتهم الساحقة، من المدنيين. أحياء بكاملها تدمر، وبيوت وأبراج يجري تدميرها على رؤوس سكانيها. هذه حقائق لا ندّعيها ولكن لكي نستكمل الحقيقة، فإن "إسرائيل" ما كانت لتفعل ذلك، وفي كل مرة تهرب من العقاب، أو يتم تهريبها وحمايتها من العقاب لولا الدعم الأميركي، والحماية الأميركية، والتواطؤ الغربي، فكل هؤلاء هم أم الولد. هؤلاء هم أصحاب المشروع الذي قضى بإنشاء دولة لليهود على أرض فلسطين، لكي تفصل بين بلاد الشام ومصر، ولكي تقضي على أي مشروع قومي عربي.
وحتى نستكمل الحقيقة أيضاً لا بد من رؤية آثار العجز العربي، الرسمي والشعبي، الذي يشجع "إسرائيل" على أن تواصل جرائمها، ويشجع حلفاء "إسرائيل" على مواصلة حمايتها.
إن كان العجز، واقعاً، لا حول لأحد أو قوة إزاءه، فإن المصيبة هي في أن يشعر المواطن، بأن العرب الذين نستصرخهم، ونتوقع منهم العون، هم شامتون، هم ينتظرون متى تقفل الجنازة، ما كان قبلها. يخشى العرب الفدائي، بل يخشون كل من لديه شيء من العزة، وكرامة النفس، وحس التمرد، أكثر مما يخشون "إسرائيل" ومطامعها، وعدوانيتها، الوضع العربي الرديء، يترك لدى المواطن السوي، شعورا بأن حكامنا يخشون المقاومة باعتبارها تهديداً مباشراً، ولا يخشون الاستعمار ومخططاته كتهديد استراتيجي.
العالم من حولنا لا يرى في ما ترتكبه "إسرائيل" من مجازر بشعة، حقائق تستحق البحث والتحقيق والملاحقة والعقاب، بل إنه يسوغ لها ما تفعل ربما لأن فئة الدم اليهودي نادرة.
حقيقة أخرى لا يرغب العرب في رؤيتها، وان رأوها لا يرغبون في تصديقها، وإن صدقوها، حاولوا نسفها، أو مصادرتها، أو تحجيمها والتقليل من شأنها.
الأداء المدهش والرائع الذي تقدمه المقاومة الفلسطينية في مواجهة العدوان الإسرائيلي البشع، هذا الأداء، الذي يستند إلى صمود شعبي قوي، هو أيضاً حقيقة واقعة. وحقيقة واقعة، ان ما يجري على أرض قطاع غزة، منذ أكثر من أسبوعين، سيفرض على الباحثين والأكاديميين، والخبراء العسكريين والأمنيين، وعلى المفكرين الاستراتيجيين وصناع السياسات، ما يجري سيفرض على كل هؤلاء، الجلوس على مقاعد الدراسة، للتعلم، والاستنتاج، وتعديل السلوك.
ولكن الحقيقة أيضاً أن هناك من يريد أن يسلب من الشعب الفلسطيني ومقاومته، الشعور بالعزة والكرامة، والأمل في أن تنجلي هذه المجابهة عن وضع جديد بالنسبة لأهل القطاع.
ثمة من يستهين بالدم الفلسطيني، ويسعى لبيعه في سوق النخاسة بدلاً من أن يعاد ضخ هذا الدم المسفوك، في عروق المشروع الوطني ونحو كنس الاحتلال، وتحقيق الاستقلال. قد يطول الأمر قليلاً، حتى يتوقف نزيف الدم الفلسطيني، ولكن من غير المنصف أن يعود قطاع غزة إلى ما كان عليه قبل العدوان. وما كان عليه يقارب من يعيشون في أدغال أفريقيا. لا يمكن العودة إلى ما قبل وإن كانت هذه الجولة من مجابهة العدوان، لم تكن كافية لفرض حقيقة سنعرفها فيما سيأتي.