أقامت "إسرائيل" الدنيا وأقعدتها بسبب اختفاء ثلاثة من مستوطنيها في الضفة الغربية والقول إنهم مخطوفون من قبل الفلسطينيين، فيما هناك آلاف الأسرى الفلسطينيين يقبعون في غياهب السجون الإسرائيلية ومنهم من مضى على سجنه عقود ثلاثة.
ستواصل "إسرائيل" عملياتها في الضفة الغربية وستُعمل الدمار والتقتيل والتخريب، حتى يمكن للمرء أن يشك بأن مثل هذه العمليات ستتوقف لو عثرت على المستوطنين الثلاثة.
فـ"إسرائيل" لم تكن يوماً بحاجة لعذر أو سبب من أجل أن تقوم بعمليات عسكرية ودموية ضد الشعب الفلسطيني وأرضه ومؤسساته، فالاحتلال بحد ذاته هو عملية عسكرية متواصلة وغير متوقفة، كما أن حرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه هو وجه آخر للاعتداء اللا منتهي الذي تقوم به "إسرائيل".
لذا فإن القصة ليست في المستوطنين الثلاثة الذين لا يعرف شيء عن مصيرهم حتى الآن، ولا في حاجة "إسرائيل" لتبرير عدوانها، بل في غياب الشق الآخر من النقاش المتعلق بالأسرى الفلسطينيين الذين يخوضون معارك بطولية من أجل حريتهم وكرامتهم، وفي وجود تصور فلسطيني مشترك لمواجهة الأزمة.
بالطبع ثمة علة أخلاقية في إجراء عملية المساواة تلك بين مستوطنين غير شرعيين يتواجدون بشكل مخالف للقانون الدولي في أراضٍ مصادرة من شعب آخر وبين مقاتلي حرية هبوا دفاعاً عن حرية شعبهم منحازين للأعراف والقوانين الدولية التي كفلت لهم هذا الحق. وعليه فلا وجه للمقارنة بأي حال من الأحوال، لكن ضرورات النقاش تبيح مثل هذا الاستدعاء.
"إسرائيل" ليست بحاجة لسبب من أجل القيام باعتداءات على الشعب الفلسطيني، لكنها تبرع في تقديم هذه الأسباب من أجل الحد من انتقاد العالم لها.
هي لا تريد أن ترى العالم يقف مرة واحدة في وجهها، تريد أن تقوم بما ترغب القيام به وسط صمت عالمي وربما ترحاب من بعض القوى الكبرى حيث يبدو الذي تقوم به دفاعاً عن النفس، وعملية أخلاقية لاسترداد المخطوفين.
كأنها تريد أن تفعل ما تفعله بموافقة العالم وتصفيقه الحار ومصادقته على جرائمها، فهي ليست بحاجة لجولدستون جديد، خاصة مع النجاحات الفلسطينية المتكررة في الساحة الدولية.
وإلى جانب ذلك فهي بحاجة لطاقة إعلامية تحرك النقاش وربما تحرفه في مجال آخر بدل التركيز على تبعات ونتائج ما تقوم به.
تبرع الصحف ومواقع الإنترنت وصفحات التواصل الاجتماعي في تقديم سيناريوهات مختلفة لما عرف بعملية الخليل، وثمة احتمالات كثيرة تطرح في النقاش وهي تنطلق من زوايا فهم مختلفة، لكن الحقيقة تظل في عداد الأموات لعدم توفر طرف خيط حولها.
الذي يفيدنا من هذه الحقيقة الغائبة التي لا نعرف لها سراً هو أن ثمة واقعاً جديداً يجري استخدامه وتسخيره من أجل مواقف سياسية مختلفة.
فـ"إسرائيل" صاحبة الرواية الوحيدة حتى الآن تحاول فرض واقع جديد تضم بموجبه الكثير من المستوطنات وفق تطلعات بينيت وليبرمان وغيرهما الكثيرين، كما تريد أن تتخلص من الاتهامات المتكررة التي توجه لها بأنها تعطل عملية "السلام" التي تعثرت بسبب رفضها تقديم أي حل مقبول للفلسطينيين، بجانب ما تدركه "إسرائيل" من تفاعل مستقبلي لقضية الأسرى المختطفين لديها مع دخول إضرابهم شهره الثالث.
فيما في المقابل لا يمكن لعاقل أن يفهم سبب محاولة البعض تحميل السلطة مسؤولية ما يحدث في الضفة الغربية والخروج بعد الجيش الإسرائيلي لمهاجمة مقرات الشرطة في مشهد أقل ما يقال عنه إنه بشع ويستحضر ماضياً أليماً يود المواطن أن ينسى مآسيه.
إن غياب الرؤية الفلسطينية الواحدة للتعامل مع الوضع الراهن هو أكثر نقاط الضعف الفلسطيني وضوحاً.
ففيما تتفق "إسرائيل" على كيفية التحرك لمواجهة ما تزعمه من اختفاء مستوطنيها الثلاثة، وفيما يلتقي اليمين واليسار في دعم سياسات موحدة للتدخل والتعامل مع الفلسطينيين، فإن الفلسطينيين هناك من يشدهم لتحويل الأزمة إلى أزمة داخلية.
فالنقاش على شاشات التلفاز ومواقف بعض الناطقين الرسميين الذين يحترفون الحديث الغاضب كلها تقترح بأن الأزمة ليست في كيفية مواجهة سياسات "إسرائيل" بل إنها، أي الأزمة، في وجود مشكلة سياسية داخلية. ويمكن للمراقب الخارجي أن يعتقد أن ثمة خلافاً سيفجر الطاولة عما قليل. قد يبدو هذا صدفوياً لوهلة لكن، وكما هي سُنّة العلم، فإن تكرار الظاهرة يشير إلى قانون ناظم خفي يجب التعرف إليه لفهمها.
ما الذي يقترحه هذا الحديث؟
قبل كل شيء لابد من تطوير موقف فلسطيني موحد يتعامل مع العدوان. فالعدوان ليس ضد السلطة ولا ضد الضفة الغربية وحدها، كما لن يتألم منه تنظيم بعينه، ولا يدفع ثمنه جهة محددة.
هذا التعامل يجب أن يكون على قاعدة الدفاع عن مقدرات الشعب والسلطة. دون هذا الفهم المشترك فإن طاقات كثيرة ستهدر بشكل عفوي وستزيد الاحتلال قوة.
إن قاعدة هذا الموقف أن ثمة احتلالاً يستخدم قوته في تدمير مؤسسات السلطة والدولة والشعب الأعزل وعلى المجتمع الدولي أن يتحرك من أجل وقف المجازر المقبلة.
وليس بعيداً عن هذا تعظيم مكانة الأسرى كقضية مركزية في الصراع مع الاحتلال.
فـ"إسرائيل" توقف الدنيا على إصبع ورجل من أجل ثلاثة مستوطنين فيما لدنيا آلاف الأسرى الأبطال وننشغل في تجاذب التصريحات والمواقف وتفسير المقولات والتخوين والتكفير.
أظن أننا بذلك نسيء كثيراً لقضية الأسرى العادلة. إن العمل في المؤسسات الدولية من أجل تفعيل قضية الأسرى هو الرد الفلسطيني الأنسب لمواجهة سياسات "إسرائيل" القاتلة بحق شعبنا.
لأننا دون أن نفعل هذا، وفي ظل تحكم "إسرائيل" بالرواية الوحيدة حول اختفاء المستوطنين، ربما نجد أنفسنا في وضع يكون فيه تركيز الاهتمام العالمي على الأسرى الإسرائيليين الثلاثة، وتكون قضيتهم في الرأي العام أكثر أهمية من قضية الأربعة آلاف أسير فلسطيني.