حظيت الأسبوع الماضي بزيارة مدينتي يافا، تلك المدينة التي حملتها لي حكايات الجدة وقصص الجيران وأحلام الناس التائهة في مخيمات اللجوء. المدينة التي شكلت قلب الحلم الفلسطيني وقبلة العين حين تفكر بالعودة وتتهادى على رموشها أمنيات الحرية.
يمكن للمرء منا أن يقول في يافا الكثير بما شكلته وتشكله في الوجدان الفلسطيني من قيمة كمدينة فلسطين المدنية الأولى وحاضرتها الثقافية والاقتصادية وبوابتها الواسعة على بحر لا ينتهي.
فليافا عالمها الخاص وأحلامها الخاصة وذكرياتها الخاصة في نفس كل فلسطيني، لأنها مدينة الفلسطينيين بالمعنى المجازي والمادي للكلمة. كانت تلك من اللحظات القليلة التي يمكن للزمن أن يكون اكثر كرماً من قسوة الواقع. وكذلك شعرت حين وطئت قدماي ارض المدينة التي انطبعت على طرقاتها خطوات أجدادي وأهلي لسنين لا يمكن للتاريخ أن يتذكر تعدادها.
لست في وارد الحديث عن تلك الزيارة بما اشتملته من مشاعر وأطياف واستحضارات وتنهدات وحسرات وزيارات عائلية و(قصدرات) في الطرقات وجلوس في أماكن وإعادة بعث للأموات من رقاد الماضي، وهمهمة وثرثرة مع النفس ونظرات سارحة وشفاه عاجزة عن النطق، لأن في يافا ما يمكن أن يربك الفلسطيني من حيث هول الكارثة وقوة الفقد وقسوة الخسارة- الأندلس الفلسطيني الذي تدوسه عربات الزمن وبلدوزرات التهويد، لكن ثمة شيئاً فيه يظل عصياً على كل هذا. ليس هذا باب القصيد ولا مبتغاه، حيث إن لهذا موضعه الخاص في ذاكرة تتراكم وتندفع بالكتابة بين الفينة والأخرى، لكن ما أردته في هذا المقام هو أنني وجدت نفسي حقاً أبحث عن يافا التي أعرفها من ذاكرة جدتي ومن حكايات الجيران. مصطفي الدباغ في رائعته "بلادنا فلسطين" يصف يافا بالقول ... كأنها قطعة سقطت من الجنة. وهي ربما كانت كذلك وأكثر. ربما لم تتعرض مدينة فلسطينية لمثل عمليات التهويد القصري مثلما تعرضت لها يافا. إنهما السبب والأهمية ذاتمها اللذان يعنيان لكل فلسطيني، وهما ما جعل منها هدفاً لعمليات التهويد والتغيير. إنه السبب ذاته الذي جعل المستعمرين الأوائل يبنون مستعمراتهم الكبرى بجوار مدينة الفلسطينيين الكبرى. لم يكن هذا توجها لصراع معماري او مصادفة تاريخية أو تنافس على الحيز بقدر ما كان من البداية اشتباكا حول الرواية، فمدينة الفلسطينيين الأولى يجب أن تتحول إلى مدينة المستعمر الأولى. كأن ثمة نقيضاً لكل رواية فلسطينية. بيد أنه امام عراقة ميناء يافا وقدم طرقات أسواقها وعتق مبانيها ومقاهيها تقف تل أبيب تطل برؤوس بناياتها لتقول إنها تجسيد لحضارة معاصرة غريبة عن روح المكان.
ففيما تسير في طرقات المدينة تطل عليك بنايات تل أبيب العالية الشاهقة وأبراجها كأنها تتلصص على يافا تلتهم هدوءها.
ثمة صراع يبدو اننا تناسيناه في ظل زحمة بحثنا عن المتاح والممكن على قلته وصعوبة الحصول عليه رغم ذلك؛ إنه صراع على هوية هذه الأماكن التي جسدت في لحظة معينة قلب وطننا والفرن الكبير الذي يخبز أحلامنا. خلال تجوالي في طرقات المدينة التي شهدت ميلاد الوطنية الفلسطينية والصراع الأشرس مع الاحتلال البريطاني وعصابات المستوطنين الوافدة ، كان ثمة شيء من هويتها العربية يتآكل، وثمة من يسرق منها روحها الحقيقة. فالأماكن يتم إكسابها أسماء جديدة، والطرقات يتم إطلاق أسماء غريبة على تاريخها، لم تطأها يوماً. والأسواق كذلك. عملية ممنهجة ومحسوبة لأن هناك من يريد لهذه المدينة كما لغيرها من المدن والأماكن ان تنسلخ عن ماضيها.
تخيلت ان تواصل مثل تلك العملية يمكن لها مع الزمن ان تنجح فعلاً في طمس هوية المكان، فالطرقات مع الزمن تأخذ حقيقة أسمائها الجديدة في ظل غياب تذكير دائم بأسمائها الحقيقة. مثلاً كيف يمكن لشاب مثلي في منتصف عمره ان يتعرف على الأسماء الحقيقية للشوارع والأماكن؟ هذا وأنا ما زلت أعيش ذاكرة جدتي وأهلي عن المدينة التي عاشت فيها العائلة قروناً، فكيف سيكون حال مثلاً شاب مثلي وربما من نسلي سيزور المدينة بعد مائة سنة؟ هل سيوجد شيء يخبره عن حقيقة الرواية الفلسطينية عن المكان. مثلاً هذا الشارع، ما هو اسمه الحقيقي؟ وهذه السوق، ماذا كانت قبل ذلك؟ وماذا كان اسمها؟ وأين حدود الأحياء القديمة من النزهة والعجمي والجبلية وإرشيد والمنشية وسكنة أبو كبير وغيرها؟ وكيف يمكن له ان يستدل على ذلك في ظل التحولات البطيئة والممنهجة التي تجرى على وجه المدينة. ثمة جهود لا بد انها تجرى وهي جهود مهمة على تواضعها، مثلما تقوم مؤسسة "ذكريات" التي هي بالمناسبة إسرائيلية عربية للتذكير بالأصول العربية للأماكن في كل فلسطين، لكن هل يوجد مشروع قومي كبير لذلك يشتمل على أدلة وكتيبات وخرائط تفصيلية تحفظ للمكان عروبته وتعطي الاسم الحقيقي للاسم الذي جرت عليه عملية التهويد.
صحيح أن صراعنا مع إسرائيل على الضفة الغربية وقطاع غزة اكثر إلحاحاً، وصحيح أن لا شيء يمكن له أن ينسينا أن يافا مدينة عربية كما الناصرة وصفد وحيفا، وان جامع الساعة وكنيسة القديس بطرس تقولان حقيقة واحدة هي أن العرب هم أصحاب المكان الحقيقيين، لكن رغم ذلك نحن بحاجة لأن نطور أدوات اشتباك حضاري ومعرفي لنحافظ على ذاكراتنا هناك بحيث تستطيع الأجيال القادمة أن تعيد بناء هذه الذاكرة وتجسدها حين تحين اللحظة.
هل هناك من صدم مثلي أن إشارات الطرقات في الضفة الغربية تطغى عليها تلك الإشارات التي تحمل أسماء المستوطنات اكثر من تلك الإشارات التي تحمل أسماء القرى العربية، ومن يستمع جيداً للناس يعرف كيف تصبح الإشارات للمستوطنات تدريجياً جزءاً من وعي الناس عن المكان. هل من مصدوم من ذلك!! ألم أقل لكم اننا في اللحظة التي نخسر فيها صراعنا في يافا نخسر كل فلسطين.