لماذا كان الحصاد الاقتصادي للربيع العربي حصاداً مراً؟. هذا التعبير طرح في ندوة كنت مشاركاً فيها، عقدتها "الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية" في مقرها بالقاهرة، في أول لقاء فكري للجمعية، والذي يتضمن برنامجها حلقات نقاشية تعقد بانتظام. وكان عنوان الندوة "الحصاد الاقتصادي للربيع العربي" وشاركت فيها مجموعة من المتخصصين في النواحي الاقتصادية، والنواحي السياسية، باعتبار أنه لا فصل بين الاثنين الاقتصاد والسياسة.
الذي استخدم التعبير الذي أشرت إليه، هو الدكتور محمد إبراهيم منصور أستاذ العلوم السياسية، ومدير الجمعية. وقال إن الحصاد في الدول التي شهدت الربيع العربي، كانت مرارته في الاقتصاد، وفي السياسة على السواء.
واستطرد في عرض وجهة نظره قائلاً إن معدل التنمية حتى وإن كان كبيراً نسبياً في بعض هذه الدول من قبل حدوث الربيع العربي فيها، كان مثل ثمرة تتساقط من أعلى، إلى يد الصفوة، وهو ما كان مسؤولاً إلى حد كبير عن
انتفاضة الشعوب في هذه الدول. ثم انتشعت الآمال في التغيير. لأن هذه الآمال لم تتحقق خلال ثلاث سنوات عجاف مضت. ونحن ندخل السنة العجفاء الرابعة. ولا نزال نأمل في التعافي.
ثم دارت المناقشات ليدلي كل من المشاركين في الندوة برأيه. ويمكن إجمالها على النحو التالي بالنظر إلى ما جرى في مصر.
- إن ما حدث في 25 يناير ،2011 ثورة قامت بلا قيادة، وبلا اتجاه واضح.
- إن الحكومات التي شكلت كانت بلا هوية واضحة، وشهدت خلافات بين الوزراء في الحكومة الواحدة.
- إن النخبة السياسية التقليدية، كانت قد اعتادت على نمط لتصرفاتها في إطار ظروف وتفكير النظام السابق.
- افتقدت الحكومات التي جاءت بعد 25 يناير ،2011 إلى الفكر السياسي، والرؤية الاستراتيجية.
- غاب عن هذه الحكومات طوال السنوات الثلاث، مفهوم استراتيجية الأمن القومي، التي تعني إعادة بناء الدولة، وبناء الإنسان والقيم الاجتماعية.
.. وشملت المناقشات طرح العديد من الأفكار للخروج من المأزق، من بينها الاحتياج في المرحلة المقبلة، للاعتماد على الذات سياسياً واقتصادياً وصياغة برنامج اقتصادي يتجه إلى الإنتاج، والبحث العلمي، الذي يمثل مصدر إمداد للقدرة الإنتاجية، سواء في الصناعات التقليدية، أو في ابتكار وسائل التكنولوجيا الحديثة، والاعتماد على التصدير، باستغلال الموارد والخامات المتوافرة في الدولة، والتي تباع للخارج كمواد خام، ثم يتم استيراد المنتج النهائي لها، بما يضيع على الدولة، الفارق الهائل بين الثمن البخس الذي تباع به، وبين ما تتكبده، مقابل ما تستورده من هذا المنتج.
ورأى البعض ضرورة اللجوء إلى أصحاب الخبرة، من الذين سبق أن أعدوا دراسات في مختلف المجالات، حول صناعة نهضة اقتصادية، باستخدام الأفكار والموارد المتاحة في مصر، وأن ذلك يستلزم الدعوة لمؤتمر اقتصادي، يحضره المتخصصون في المجالات الاقتصادية، ويضاف إليهم عدد من أصحاب الرؤية الاستراتيجية، والمفكرين السياسيين، وعلماء الاجتماع، ومن يمثلون رجال الأعمال، وقطاعات الفنون والأدب. لأن الدولة تحتاج في المرحلة المقبلة إلى حشد أفضل عقولها، ليس لمجرد حل مشكلات اقتصادية ولكن لصياغة مشروع قوي أبعد مدى.
وضمن الآراء التي طرحت في المناقشات، أن المشكلة الاقتصادية التي تواجهها مصر حالياً، مهما كانت صعوباتها، لن تكون عائقاً، إذا توافرت إرادة التغيير والتقدم. لأن هناك دولاً مرت بظروف أصعب مما تواجهه مصر، لكنها قفزت من واقعها الصعب، وحققت تقدماً مبهراً دفع بها إلى مصاف الدول المتقدمة.
وإذا نظرنا إلى كوريا الجنوبية كنموذج لهذا، نجد أنها حققت خلال العقود الأخيرة، نمواً اقتصادياً مبهراً، أتاح لها التخلص من أنقاض ما هدمته الحرب الكورية، والارتفاع إلى أعلى مستويات الدول المتقدمة، وهي تحتل الآن مستوى سابع أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة، وتحتل المرتبة الخامسة عشر بين أكبر الاقتصادات في العالم.
وإذا نظرنا إلى نموذج آخر شديد الدلالة، نجده في دولة منغوليا، التي كانت تعد أفقر دولة في آسيا. ولكنها وضعت يدها على مفاتيح الخلاص من الفقر إلى الثراء، واستطاعت خلال سنوات قليلة أن تصبح دولة منتجة لوسائل التكنولوجيا الحديثة، ومصدرة لها إلى أسواق العالم.
والنماذج عديدة للدول الصاعدة، التي حققت تنمية اقتصادية ناجحة، واهتمت بوضع مفهوم العدالة الاجتماعية، ركناً أساسياً في خطط التنمية.
ولابد لأية خطط اقتصادية، ألا يغيب عنها، التركيز على إصلاح التعليم، فهو القاعدة التي يبنى عليها أي مشروع للتقدم، والارتقاء بالبشر، والتخلي نهائياً عن أساليب التعليم التلقيني التي لا تساعد على تخريج أجيال قادرة على التفكير والإبداع. وأن تستفيد مما يجري من تطوير لمناهج التعليم للصغار في دول العالم، حتى المتقدمة منها، كالولايات المتحدة. والتي تركز - في عصر ثورة المعلومات - على إتاحة الفرص في الفصول الدراسية، لمناقشات يشارك فيها التلاميذ، يستمعون لبعضهم بعضاً، ويتعلمون احترام الرأي الآخر، وتقبل الاختلاف في الرأي.
كانت هذه باختصار نوعية من الآراء التي طرحت في الندوة، والتي لم يختلف المتحدثون حولها، وكنت معهم، في أنه إذا كانت انتفاضات الربيع العربي، قد قامت للتخلص من أنظمة دكتاتورية استبدادية، إلا أن الدافع الاقتصادي كان محركاً للملايين. وكان الهدف الجماعي هو إعادة بناء الدولة، لكن العناصر التي أشرت إليها في مقدمة هذا المقال، يضاف إليها انتشار عدم الاستقرار، والفوضى الأمنية، كانت تشكل معاً السبب الجوهري الذي حوّل حصاد الربيع العربي، إلى حصاد مر.
ومع ذلك فإن إدراك الشعب لأسباب المحنة، وإصراره على قهرها، هو بداية الطريق، نحو بناء دولة متقدمة، مزدهرة، مستقرة، تتسم بالتكاتف بين أبنائها.