نضال العزة ورلى نصر-مزاوي
ما جرى من مظاهرات غير مرخّصة في حيفا، ولنسمّه حراك حيفا، يشكّل نقطةَ تحوّلٍ في المشهدالفلسطينيِّ على أكثر من مستوى. ورغم أنّ هذا التحوّلَ ليسَ وليد لحظته، إذ إنّه غير منفصل عن الهبّات السابقة مثلَ هبّة العام 2000، أو الوقفات الشّجاعة لوقف الحروب على لبنان وغزّة، والحراك ضدّ مخطّط برافر وغيرها، إلّا أنّ حراك حيفا الأخير تميّز بقوّة ووضوح رسالته، وشكله، وفي لحظته التّاريخيّة التي بدا فيها الوضع الفلسطيني أضعف ما يكون. يحاول هذا المقال المقتضب أن يلقي الضوء على المؤشرات التي يلزم الالتفات إليها، وذلك من أجل الوقوف عند هذا الحراك المميّز، وبالذّات من قبل القائمين/ات على الحراك نفسه.
لعله من المناسب التأكيد أنّ حراك حيفا، وليس المقصود به نواة العمل المركِّزة، بل الفعل نفسه، بما يشمل المشاركة الجماهيرية والمضامين، لم يكن مميزًا فقط في مكانه؛ أيّ في رمزيّة حيفا الواقعة داخل الخط الأخضر، ولا في أنّ جماهيره من فلسطينيي الداخل المضطهدين والخاضعين قسرًا لبرامج وسياسات أسرلة وإقصاء مستمرّة منذ سبعين عامًا، بل لأنّه كان فعلًا متحديًا. وقد برز ذلك التحدي في أمرين أساسيين:
أولًا: كان الحراك فعلًا كفاحيًّا؛ أيّ لم يكن مجرّد فعل "تضامني" مع غزّة. لقد كان فعلا عَكسَ وحدة الشعب الفلسطيني وقضيته وحقوقه. حراك حيفا كان فعلًا نضاليًّا جسّد تكامليّة ساحات مواجهة المستعمر وتحداه في أركانه وليس آثاره وحسب. ومن المعلوم أنّ الرّكنَ أساس في تكوين الشيء، لا يقوم الأخير بدونه.
بكلمات أخرى، لم يكن الحراك احتجاجيًّا ولا مطلبيًا، بل تحدّى المشروع الاستعماري.
ثانيًا: كان الحراك فعلا حرّكه ونظّمه وقاده الشّباب، خارجَ الأطر والأحزاب التقليديّة، وهذا لا يلغي، بالطّبع، ارتباطَ جزءٍ من الشّباب المنظّمين أو المشاركين بتلك الأُطُرِ أو الأحزاب أو انخراط بعضهم فيها بشكل ما. فعلى الرغم من أنّ الحراك لم يكن تعبيرًا عن إرادة أو برامج أي من الأحزاب القائمة، إلا أنّ التجربة والخبرات المكتسبة من العمل ضمن الأحزاب السّياسيّة كان لها أثر واضح على مستويات عدّة، خصوصًا على المستويين التنظيمي والإعلامي. وكان لافتًا انضمام قياداتِ الأحزابِ للمظاهرات، رُغم أنَّ التّنظيمَ كان شبابيّا بحتًا.
التحدّي الكفاحيّ الأوّل كان في الإصرار على تنظيم المظاهرات دون ترخيص، رغم التّهديد بالقمع. استند ذلك الإصرار إلى إيمان عميق بأن النّضال الجديّ لا يكون باستئذان المستعمِر. وكان في هذا الإيمان، ثم الإصرار، تجاوزًا لعقليّة العمل من داخل النّظام (نظام دولة المستعمِر، ونظام الشّرعيّة الدّوليّة المحكومة بموازين القوى)، هذه العقليّة الّتي ثبت فَشَلَها عبر عقودٍ طويلة.
التّحدّي الكفاحيّ الثانيّ كان في إمكانيّة التّحشيد، إذ لم يكن سهلًا حشدُ المئاتِ في مظاهرة غير مرخّصة، خصوصًا في ظلِّ التّشكيكِ بجدوى العمل أو بدعوى المغامرة غير المحسوبة الصّادر عن جهات فلسطينيّة، ناهيك عن التّهديدِ الإسرائيليّ بالقمع.
الكفاحي الثّالث كان في الشّعارات والهتافات والصّمود والمواجهة، والتي عَكستْ قوّةً في المضمون وأرسلت رسائل ساطعة في أكثر من اتجاه. فليس من المعتاد، ولم يكن عاديًّا، ولا أمرًا عرضيًا الهتافُ لـ "غزة العزة"، و"من حيفا لليرموك شعب واحد ما بموت"، و"... ليش رضيتوا الحل السلمي"، وتحدي "... كلاب الشباك ويوم الاشتباك"... وغيرها من الهتافات.
إنّ ما تضمّنه حراكُ حيفا من وقفاتٍ، وشعاراتٍ، وهتافاتٍ حملت من التّحدي ما لا يقلّ في أثره وفاعليّته عن مسيراتِ العودةِ في غزّة. دون الانتقاص من حجمِ تضحيات شعبنا في قطاع غزّة، من المفهوم أنّ فاعليّة العمل الكفاحيّ لا تقاس بحجم التّضحيات، أو بدرجةِ القمع؛ إنّما بالأثر. والأثر هنا يقاس بالنّظر إلى ما يحدثه الفعل من خلخلةٍ أو تصدّعٍ على مستوى العدو/الأعداء، أو بالنّظر إلى ما يحدثه من تصليب على مستوى الشعب/قوى التّحرّر. وعليه، إذا كانت مسيرات العودة في قطاع غزة قد أعادت الحضور بقوّة لقضيّة اللّاجئين والمهجّرين وحقوقهم، ولقضيّة الحصار الظالم المفروض على القطاع منذُ أحدَ عشرَ عامًا، فإنّ حراك حيفا أعاد الحضور لمبدأ وحدة الشّعب الفلسطينيّ، ومبدأ وحدة القضية والحقوق، ومبدأ تكاملية ساحات النّضال، وعبثيّة أوسلو، وعدميّة المشاركة في الكنيست، ولا مشروعيّة المشروع الاستعماريّ الصّهيو-إسرائيليّ.
على المستوى الإسرائيليّ الرّسميّ، وبالمعنى الإستراتيجيّ، ودون انتقاص من أثر الفعاليات السابقة، كما أسلفنا، خلخلَ حراكُ حيفا استقرارَ الاعتقاد الإسرائيليّ بنجاح عملية أوسلو في فصل فلسطينيي الداخل المحتل عن بقيّة الشّعب الفلسطينيّ؛ حيث تهاوى في الميدان الاعتقاد بإمكانية سلخهم عن أصلهم القوميّ. فمن جهة، أصبحت فكرة الأقليّة العربيّة في إسرائيل وما يتّصل بها من برامج، بما في ذلك البرامج الحزبيّة، محلَّ شكٍّ كبير على أقلّ تقدير. ومن جهةٍ ثانية، سقطت مقولة "إنّهم شأن إسرائيليّ داخليّ" التي استولدتها شروط وقيادات أوسلو. وعلى المستوى الإسرائيليّ المجتمعيّ، خلخل الحراك الاعتقاد باستسلام الضحيّة للمستعمر، والإحساس المطمئن إلى استقرار المشروع الاستعماريّ؛ هذا الإحساس الذي تنامى باضطراد منذ أوسلو. عاد المستعمرون ليُصدموا، بقوّة، بحقيقة أن القمع قد يفرّق مظاهرة، وقد ينال لحظيًا من القدرة على مواصلة المواجهة، لكنه لا يستطيع أن ينتزعَ الايمان بالحق، والذي يشكّل مصدرَ قلقٍ دائمًا للسارق.
على المستوى الفلسطينيّ الرسميّ، ظهر القلق من الحراك في الصّمتِ شبه المطلق، وبعض التحيّات الخجولة. ولو دقّقنا في ما وراء الصمت والتحيات الخجولة "لأبناء شعبنا في إسرائيل"، سنرى ما سبّبه حراك حيفا من قلق على "مُلْكيّة" تمثيل الشّعب الفلسطينيّ ومشروع أوسلو نفسه. هذهِ الحالةُ عبّر عنها بعضُ كوادر السّلطة بتصوير الحراك إمّا بأنه فورة ستنتهي سريعًا، أو أنّه يخدم - بقصد أو بدون قصد - إسرائيل وحماس في استهداف الشّرعيّة الفلسطينيّة، أو أنّ خلفه أجندات ترمي إلى إضعاف القائمة المشتركة (المسندة من السلطة طبعًا).
في مختلف الحالات كانت هناك حقيقتان ساطعتان: الأولى، أنّ القيادات رفضت، أو قصّرت، أو عجزت عن تبني الحراك ورفده وإسناده. الحقيقية الثانية تمثّلت في أن الحراك أعاد إلى الواجهة السؤال الأساس حول شروط ومعايير شرعيّة التّمثيل الوطنيّ، بالإضافة إلى سؤال المسؤوليّة عن كل الآثار المدمرة لعمليّة سلام أوسلو.
أمّا على المستوى الشعبي، فقد جاء الحراك باهرا واستُقبل بافتخار. فبنظرة سريعة على التفاعلات مع الحراك، يظهر أنه كان "مبعث أمل"، "أحيا فينا الأمل بالعودة والتحرّر"، "خطوة تبشّر بإمكانيّة التخلّص من أوسلو والسّلطة..."، "تعبير حقيقي عن وحدة الشعب في كافة أماكن تواجده"، "أخجل من نفسي أمام عظمة مظاهرة حيفا..."، "وين السحيجة يتعلموا شو يعني مقاومة"، "والله إسرائيل أضعف من بيت العنكبوت..."، "شباب وجماهير سبقت القيادات... "، "صوت الناس الحقيقي"... إلخ.
ولعلّه من المناسب، ضمن هذا السّياق، التقاط خشية الناس الكبيرة على الحراك. ظهرت تلك الخشية في تعبيرات مختلفة مثل: "المهم عدم السّماح بالتفاف القيادات على تضحيات الشّباب.."، "يا شباب حيفا البواسل احذروا من يركبون الموجة عبر فضائيّات..."، "يجب أن نفكر كيف تستمر الفعاليات.." وغيرها.
قد لا يستمرّ حراك حيفا حاليًا بنفس الزّخم لأسبابٍ عديدة، أهمّها عدم نضوج الإطار التّنظيمي النّاظم للحركة والمستقل، تمامًا، عن الهياكل التنظيميّة الحزبيّة القائمة. وليس المطلوب من حراك حيفا أنّ يستنفذ ذاته، فالتقاط الأنفاس وتنظيم الصفوف من مقوّمات الاستمرار. في المقابل، ليس من الصّحة بمكان افتراض أنّ الحراك بشكله الحالي يشكّل البديل عن القوى والأحزاب القائمة، إنّما خطوة جريئة قد تدفع الأحزاب لمراجعة برامجها ورؤاها، والأهمّ أنّه يسهم في خلق قوة/ى وحراكات جديدة.
حراك حيفا لم يكن عاديًّا، ولا يجب أن يكون مجرّدَ حجرٍ في مياه راكدة. حراك حيفا مؤشر قوي على استعداد الجماهير للتضحية بالالتفاف حول فعل نضالي حقيقي، وعلى الحاجة إلى رؤية جديدة لإستراتيجيّة التّحرر وأدواته ووسائله، وعلى فرصة الخروج من عباءة الأحزاب والفصائل والقيادات المستهلكة.
من صنعوا الهيئة العربية العليا ما قبل 1948، ومن قادوا ما عرف بحكومة عموم فلسطين ما بعد النكبة، ومن أسّسوا وجعلوا من منظّمة التحرير الفلسطينية إطارا تمثيليا جامعا على قاعدة الكفاح التحرري، ليسوا بأقدر من شباب حراك حيفا ولا أكثر شرعية منهم/ن.
لا تنتظروا إعلان وفاة البرامج والأحزاب وتنحّي القيادات القائمة، امضوا بحراككن/م موجهين/ات البوصلة إلى المستعمر، فإن حراككم/ن بداية عملية وجديّة للخروج من حالة العجز عبر استنهاض وتأطير القوى الحية في شعبنا.