منير شفيق
أغلب ما كتب عن السياسة الأميركية قبل الحرب في أوكرانيا يجب أن تعاد قراءته على ضوء ما طرأ من تغيير في السياسة الأميركية بالنسبة إلى الموقف من روسيا، كما بالنسبة إلى معالجة الحرب في أوكرانيا.
كانت أميركا قبل الحرب في أوكرانيا تسعى إلى تطويق روسيا عسكرياً وسياسياً، من خلال توسّع حلف «الناتو»، ليشمل كل دول «وارسو» سابقاً، ثم كل الدول الأوروبية التي كانت جمهوريات في الاتحاد السوفياتي. وقد وصلت أخيراً مع بعض الاستثناءات القليلة، إلى تسليح أوكرانيا وتحضيرها لدخول حلف «الناتو»، بعدما نجحت في إحداث الانقلاب في السلطة الأوكرانية عام 2014، ما فرض على روسيا بوتين أن تشنّ حرباً محدودة، وخاطفة، لاستعادة شبه جزيرة القرم الذي سبق أن اقتطعه خروتشوف من أراضي روسيا وأعطاه لأوكرانيا (التي كانت الجمهورية المدللة بعد روسيا في الاتحاد السوفياتي). وقامت بعد هذه الحرب، التي استردّت فيها روسيا شبه جزيرة القرم، جمهوريتان شعبيتان في شرق أوكرانيا هما دونيتسك ولوغانسك، وقد حُمي استقلالهما من خلال اتفاق مينسك.
يقود أوكرانيا رئيس يهودي صهيوني هبط بمظلة أميركية على الشعب الأوكراني بعد انقلاب 2014. وتمكّن من الفوز بالانتخابات، على وعد المجيء بالمساعدات المالية لأوكرانيا من أميركا، فراحت إدارة بايدن تمدّه، بالتعاون مع بريطانيا، بالصواريخ المضادة للدبابات والطائرات، ما شكّل تهديداً للأمن القومي الروسي على أعلى مستوى. أي ما لا يمكن أن تحتمله دولة قادرة، إذ يتهدّد أمنها القومي (وجودها).
الأمر الذي فرض على بوتين بداية، حشد 150 ألف جندي على حدود أوكرانيا، مهدداً بالحرب إذا استمرت أوكرانيا بتهديد الأمن القومي الروسي والسعي للدخول في «الناتو»، ومناصبة روسيا العداء. وطلب من أوكرانيا أن تكون محايدة مثل السويد مثلاً، وتكون صديقة لروسيا وللغرب، وترعى مصالح الشعب الأوكراني بهذا الحياد على أحسن وجه.
بدلاً من أن يستجيب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لهذا الطلب العادل، وفيه مصلحة الشعب الأوكراني وأوروبا وروسيا، وفيه تجنيب للشعب الأوكراني من أن يتعرّض لحرب قاسية ومدمّرة ومؤلمة، ذهب زيلينسكي إلى تبنّي السياسة الأميركية في حشد القوة المسلحة وتحدي روسيا، لدفعها إلى الحرب دفعاً، وقد حشدت جيشها. وغدا الوضع جدّاً لا هزلاً ولا مزحاً. وما كان لهذا الموقف العدائي من روسيا أن يأخذه رئيس منتمٍ إلى الشعب الأوكراني، وتهمّه مصلحته إلّا رئيس مثل زيلينسكي الذي هبط بالمظلة الأميركية، وليس له من همّ غير خدمة السياسة الأميركية والصهيونية، وليس عنده من انتماء للشعب الذي انتخبه واهماً بأنه أوكراني أصيل وتهمّه مصلحة الشعب الأوكراني. وإلا كيف يفسّر أن يذهب إلى خيار الحرب الكارثية المدمّرة للشعب الأوكراني وأوكرانيا، فيما المعروض المقابل، أوكرانيا المحايدة والصديقة لكل من روسيا والغرب في آن واحد.
إلى هنا تكون إدارة بايدن قد دفعت كلاً من روسيا وأوكرانيا إلى الحرب في 24/2/2022. وقد شهد العالم، وما زال يشهد، ما حملته من ويلات للشعب الأوكراني، ومن أذى عسكري واقتصادي وسياسي لروسيا المضطرة إلى الدفاع عن أمنها القومي.
ومنذ ذلك اليوم، والحرب لا تزال دائرةً بويلاتها على الشعب الأوكراني، وأذاها على روسيا، وأضرارها الفادحة على الاقتصاد العالمي، وما سيلحق من خسائر مادية، وصعوبات معيشية للملايين، أو عشرات الملايين من البشر، من متوسطي الحال، وما دون ذلك.
أمّا الأنكى، فإن ثلاث أو أربع جولات من المفاوضات بين روسيا وحكومة كييف باءت بالفشل، بسبب رفض زيلينسكي للعرض الروسي الذي لا يزال قائماً: حياد أوكرانيا وعدم تحوّلها إلى قاعدة عسكرية أميركية، تهدّد الأمن القومي الروسي تهديداً خطراً للغاية. وهذا الرفض يستند إلى الدعم الأميركي، والتحريض على الاستمرار في الحرب. كما تعبّر عن ذلك، بلا مواربة، سياسة الإدارة الأميركية، وبايدن نفسه، إزاء روسيا وبوتين، كما إزاء استمرار الحرب. بل كما يراد للعالم أن يكون عليه، ما بعد الحرب في أوكرانيا، من حرب اقتصادية وسياسية وعدائية ضد روسيا.
مع اندلاع الحرب في أوكرانيا، خلعت إدارة بايدن ما كانت تلبسه من قفازات حريرية، أو ترسمه من ابتسامات خادعة تخفي أنيابها التي راحت تكشّر عنها الآن، في مواجهة روسيا. بسرعة لمح البصر، راحت تدين روسيا باعتبارها معتدية ومخالفة للقانون الدولي في حربها على أوكرانيا، وهي التي فعلت بالأمس القريب أكثر من ذلك في العراق وأفغانستان، ودعمت كل حروب الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين. لقد فعلت ذلك ليس لمجرد إدانة روسيا لغزوها العسكري لأوكرانيا، كما بدا للوهلة الأولى، وإنما تبيّن أنها تريد شنّ حرب حتى الحسم ضد روسيا من خلال الجيش الأوكراني، ودماء الشعب الأوكراني.
فمنذ 24/2/2022 حتى اليوم، وهي تنفخ في الحرب، وتصعّدها ضد روسيا، في ميدان القتال من خلال الدعم العسكري والسياسي والمالي والحشد الناتوي، وفرض العزلة الدولية عليها. ولم تترك مكاناً لوقف الحرب والوصول إلى هدنة، أو مفاوضات ثنائية بين روسيا وحكومة أوكرانيا. بل تريدها أن تستمر وتتصاعد والهدف رأس بوتين، وإلّا ما معنى الذهاب بالقضية إلى محكمة العدل الدولية. وما معنى اتهام بوتين، وعلى لسان بايدن نفسه، بأنه «مجرم حرب». ثم طبعاً يجب أن يضاف ما فرض من عقوبات اقتصادية وسياسية على روسيا، من قِبَلها أوّلاً ثم الضغط على حلفائها ليحذوا حذوها ثانياً.
هذا يعني أن ما يجري في أوكرانيا ليس حرباً بين روسيا والجيش الأوكراني، كما هي ساحتها، وإنما هي الحرب بين أميركا وروسيا، في الأساس، والجوهر، وفي أثنائها، وفي ما بعدها. بل هذا يعني أن الحرب إذا ما وجدت حلاً، بالمفاوضات والوساطات، ووضعت أوزارها، سيكون ذلك بالرغم من الرغبة والسياسة الأميركيتين من جهة، فيما ستستمر الحرب الأميركية ضد روسيا بعد ذلك. كيف؟ ستستمر العقوبات والمقاطعة السياسية، واعتبار بوتين «مجرم حرب»، وستتوسّع إلى عقوبات ضد كل من لا يدخل الحرب معها ضد بوتين، وسوف تعتبره عدوّاً.
إن مضيّ أميركا بهذه الاستراتيجية والسياسة اللتين تبدّتا في حرب أوكرانيا، والاستمرار بهما إلى ما بعد الحرب، حتى مع خروج روسيا منها قويّة ومنتصرة، بما سيتحقق لوقف الحرب (حياد أوكرانيا)، سوف يؤدي إلى انقسام العالم إلى كتلتين كبريين، ومن ثم نظامين اقتصاديين متوازيين، ومتحاربين، وإلى انقسامات أخرى، أو تكتلات أخرى ثالثة، ورابعة، ولا سيما بعدما اشتدّ ساعد دول إقليمية كبرى، مثل إيران وتركيا والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا وغيرها وغيرها. كما سعي صيني ــــ روسي حثيث لبناء نظام اقتصادي عالمي موازٍ لهيمنة الدولار ونظام السويفت.
هذا يعني أن عالم ما بعد حرب أوكرانيا، وبسبب السياسات الأميركية في أثنائها، ومن بعدها سوف يتخطّى العالم المتعدّد القطبية إلى عالم كتل قطبية متعادية، بداية أميركا و«الناتو»، مقابل روسيا والصين، مع تعدّد قطبية بينهما، وإلى جانبهما.
طبعاً، التفاصيل لن تكون مطابقة لهذا التوقّع. لأن ما ينتجه الواقع أغنى دائماً. ولكن الأكيد علينا أن ننسى عالمنا الذي ساد، قبل الحرب في أوكرانيا، لننتظر انبثاق عالم مختلف تماماً. كما علينا أن ننسى علاقة أميركا بروسيا قبل الحرب في أوكرانيا.