بعد توقيع "اتفاق مكة" وتشكيل حكومة وحدة وطنية توقّعتُ ألا تستمر هذه الحكومة أكثر من ثلاثة أشهر، وبالفعل انهارت الحكومة بعد مرور هذه المدة ووقع الانقسام المدمر منذ ذلك الوقت وحتى الآن.
لم يكن توقّع سقوط حكومة الوحدة نوعاً من التنجيم، بل بسبب أن "اتفاق مكة" حمل عوامل انهياره.
فلقد تجاهل مصر راعية المصالحة، والبعد السياسي، والموقف تحديدًا من شروط اللجنة الرباعية، وبرنامج الحكومة كان مبهماً وحمّال أوجه، وحاول إرضاء كل الأطراف ولم يرضِ أحدًا على الإطلاق؛ وذلك من خلال الإشارة في عبارة إلى "الالتزام" بالاتفاقات، وفي عبارة أخرى جاءت كلمة "احترام"، وبين الاحترام والالتزام ضاعت حكومة الوحدة.
وأسهم في فشل "اتفاق مكة" تجاهله كليًّا لمنظمة التحرير، وللأمن الذي كان القشة التي قصمت ظهر البعير.
إضافة لما سبق فإن عدم توفر القناعة العميقة لدى "فتح" و"حماس" بأهمية الشراكة واستحالة انفراد أي منهما بقيادة الشعب الفلسطيني، ومراهنة كل منهما على المفاوضات من قبل طرف وصعود الإسلام السياسي من الطرف الآخر، ومراهنتهما على أطراف ومتغيرات عربية وإقليمية وخارجية؛ لعبت دورًا في انهيار اتفاق مكة وحكومة الوحدة بسرعة قياسية، خصوصًا في ظل المقاطعة الدولية والإسرائيلية للحكومة التي ترافقت أيضًا مع وقف تحويل العائدات الجمركية للسلطة.
أنا في حيرة من أمري بعد توقيع "اتفاق الشاطئ" ومثلي الكثير من الفلسطينيين الذين عملوا من أجل الوحدة وتعاملوا معها كضرورة وطنية وليست مجرد خيار من الخيارات. وأتساءل: هل سيصمد هذا الاتفاق أم سينهار كسوابقه؟
فمن جهة، معظم الأسباب التي أدت إلى فشل الاتفاقات الوحدوية السابقة لا تزال قائمة، فالمحتوى السياسي للاتفاق مفقود، بدليل حديث أبو مازن عن أن حكومة الوفاق القادمة حكومته وبرنامجها برنامجه، ما أدى إلى ردود عليه من عدد من قادة "حماس" بأن الحكومة ليست حكومة شخص أو حزب، بل إنها حكومة كفاءات لا برنامج سياسيًا لها، وإن السياسة من اختصاص منظمة التحرير.
كما أن "اتفاق الشاطئ" لم يتطرق إلى الأمن ولا إلى توحيد المؤسسات، وركز على تشكيل الحكومة وإجراء الانتخابات بعد ستة أشهر على الأقل، ما يعني إما أن الانتخابات لن تحدث قريبًا، خصوصًا في ظل ما تضمنه الاتفاق من إشارة إلى الانتخابات المتزامنة للسلطة والمنظمة، التي من غير الممكن إجراؤها في الأردن ولبنان وسوريا في المدى المنظور على الأقل، وفي ضوء حديث الرئيس المتناقض أمام المجلس المركزي عن تسليم مفاتيح السلطة للاحتلال، وفي نفس الوقت طالب بدراسة: هل ستُجرى انتخابات للرئيس والمجلس التشريعي للسلطة أم انتخابات لرئيس الدولة وبرلمانها التزامًا بالاعتراف الدولي بدولة فلسطين كدولة مراقبة؟ وهذا إن حدث ستعارضه إسرائيل إلى حد قد يصل إلى منع إجراء الانتخابات، أو ستُجرى انتخابات للسلطة في ظل التزامات أوسلو المجحفة التي تقادم عليها الزمن وتجاوزتها الأحداث، وما يعنيه ذلك من إعطاء الشرعية للوضع القائم الذي أكد الرئيس أنه لا يمكن أن يستمر، وما سيؤدي إليه من إذكاء حمى التنافس الانتخابي وإلى تغليب التناقضات الثانوية بين الفصائل وفي صفوف الشعب على التناقض الرئيسي مع الاحتلال.
وأيضًا، كرّس "اتفاق مخيم الشاطئ" تجاوز ما هو وارد في "اتفاق القاهرة" من نص على ضرورة قيام لجنة تفعيل المنظمة بدور الإطار القيادي المؤقت المنصوص على صلاحياته، وأن قراراته غير قابلة للتعطيل، من خلال الإشارة إلى عقد لجنة تفعيل المنظمة، وما يعنيه ذلك من فتح الباب لتفسيرات متباينة جدًا في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى إطار قيادي مؤقت يقود الشعب الفلسطيني بما لا يمس شرعية ودور مؤسسات المنظمة، الذي يمكن أن يتم حفظه من خلال اعتماد اللجنة التنفيذية لما يتفق عليه في الإطار القيادي المؤقت.
يضاف إلى ما سبق أن حوالي ثماني سنوات على الانقسام أدّت إلى تعميقه أفقيًا وعموديًا، وأوجدت ما يمكن تسميته "جماعات مصالح الانقسام" التي ازدادت نفوذًاً وثروة وليس من مصلحتها إنهاء الانقسام، وستعمل كل ما تستطيع لإفشاله أو تفريغه من مضمونه وتحويله إلى نوع من أنواع إدارة الانقسام، من خلال وجود حكومة فوقية لا توحّد المؤسسات ولا تعيد بناء وهيكلة وتوحيد أجهزة الأمن، التي من دون أن تصبح أجهزة للدولة وتخدم الشعب وتخضع لسيادة القانون لا يمكن إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية.
كما أن إسرائيل والولايات المتحدة لن تكفا عن ممارسة الضغوط وتنفيذ العقوبات التي تستهدف إبقاء السلطة أسيرة اتفاق أوسلو رغم المصالحة، ومواصلة العمل لإجبار القيادة على تمديد المفاوضات من دون الشروط التي أعلنها الرئيس، والتي يؤدي التمسك الواجب بها في ظل واقع تعنت وتطرف الحكومة الإسرائيلية إلى وقف المفاوضات وإطلاق رصاصة الرحمة على ما تسمى "عملية السلام".
من جهة أخرى، هناك أسباب وعوامل تدفع باتجاه إنجاح اتفاق المصالحة، منها اختلاف البيئة السياسية العربية والإقليمية والدولية بشكل كبير عمّا كان عليه الوضع عند توقيع "اتفاق مكة" والسنوات التي تلته لجهة تراجع تأثير الدور الأميركي، وتراجع تأثير الأطراف الخارجية على الوضع الفلسطيني، بدليل توقيع "اتفاق الشاطئ" في غزة من دون تدخل من أحد تقريبًا، وبروز دور روسيا وأطراف إقليمية وعربية بعد سقوط نظام حسني مبارك، وانشغال مصر وسورية والمنطقة برمّتها بما جرى من تغيّرات وثورات ومؤامرات، وإهمال القضية الفلسطينية، بما فيها تراجع الاهتمام بملف المصالحة.
ولعل الترحيب العربي والدولي الواسع باتفاق مخيم الشاطئ بما في ذلك الترحيب الأوروبي الحذر والموقف الأميركي الإسرائيلي المرتبك؛ يدل على أنّ إمكانياتهما على التعطيل خاصة بعد الفشل الذريع لجهود كيري أقل من السابق بشكل ملموس.
إن من أهم العوامل التي ساعدت على توقيع الاتفاق ويمكن أن تساعد على إطالة عمره وجود وإلحاح مصالح آنيّة ضاغطة على طرفي الانقسام دفعتهما إلى توقيعه.
لنبدأ بـ"حماس" التي تعاني من أزمة لم يسبق لها مثيل بعد أن خسرت حلفاءها في سورية وإيران وحزب الله، وتحوّل دول الخليج ما عدا قطر إلى الخصومة إن لم نقل العداء معها، وسقوط حكم محمد مرسي المتحالف معها وحلّ محلّه حكم يشن حربًا لا هوادة فيها على الإخوان المسلمين وعلى "حماس" بوصفها امتدادًا لهم، إلى حد منع أفراد وقيادة "حماس" كليًّا من السفر عبر معبر رفح، وهدم غالبية الأنفاق التي كانت مصدرًا للبضائع والأسلحة ولكل شيء، ما أدى إلى خسارة ما كانت تدرّه من أموال على حكومة "حماس" وطائفة من تجار الأنفاق الذين أصبح العديد منهم مليونيرات، الأمر الذي أدى إلى عدم قدرة "حماس" على دفع رواتب موظفي حكومتها بانتظام.
إن تشديد الحصار على قطاع غزة دون التعاطف السابق ولا تقاطر وفود التضامن ولا قوافل المساعدات، وفي ظل التهدئة وحصر المقاومة في مجال الدفاع عن النفس والسلطة في غزة؛ أدّى إلى أزمة اقتصادية ومالية شديدة انعكست في تردي الأحوال المعيشية وأزمات المياه والكهرباء والوقود وغيرها، الأمر الذي لم يجعل أمام "حماس" سوى طريق المصالحة لوقف الحصار والخروج من أزمتها، خاصة أزمة علاقتها مع مصر، الرئة التي تتنفس منها "حماس" وقطاع غزة.
إذا انتقلنا إلى "فتح" سنجد أنها تمر بأزمة لا تقل عن أزمة "حماس" وجذر هذه الأزمة ينبع من الفشل الذريع لـ"اتفاق أوسلو" والتزاماته المجحفة، وانسداد أفق المفاوضات الثنائية برعاية أميركية انفرادية.
وكل من استمع إلى خطاب الرئيس أبو مازن في افتتاح المجلس المركزي لاحظ المرارة والإحباط جرّاء مسيرة المفاوضات التي تحطّمت بسبب التعنّت الإسرائيلي رغم إبقائه للحبل السريّ مع هذا الطريق.
وما فاقم من أزمة "فتح" أن الاحتلال استغلّ استئناف المفاوضات لاستكمال تطبيق المخططات الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية التي تجعل الحل الإسرائيلي أكثر وأكثر هو الحل الوحيد المطروح والممكن عمليًّا.
يضاف إلى ذلك تردي الأحوال الاقتصادية والاجتماعية في الضفة الغربية، وانتشار حالة من الإحباط واليأس، وازدياد حدّة صراع الأجنحة في "فتح" على المراكز والمصالح وعلى خلافة الرئيس الذي قارب على الثمانين ويمكن أن يسلم الراية - خصوصًا كما قال في اجتماع عمان الذي عقد في بيت طاهر المصري - إذا لم تنجح الجهود الرامية إلى استئناف المفاوضات، ما سيؤدي إلى اشتعال حمى المنافسة بين المرشحين لتولي منصب أو مناصب الرئيس في "فتح" والسلطة والدولة والمنظمة.
أبو مازن يريد من المصالحة الحصول على الشرعية من خلال الوفاق الوطني التي لن يحصل عليها بإجراء الانتخابات في ظل الانقسام، وما يمكن أن يفتح الطريق لتجديد الشرعية عبر الانتخابات، كما أن المصالحة يمكن أن تعزز موقفة التفاوضي وفرص استئناف المفاوضات، ولو بعد حين، خصوصًا إذا غضّت "حماس" النظر كما يبدو عن إعلانه بأن الحكومة الوفاقية ستعترف بإسرائيل التي لا تعترف بالدولة الفلسطينية، وتلتزم بالاتفاقات التي لا تلتزم بها الحكومة الإسرائيلية، وتنبذ العنف و"الإرهاب"، بالرغم من أن الاحتلال وجرائمه المختلفة يمثل ذروة العنف والإرهاب.
اتفاق المصالحة مفتوح على عدة احتمالات، بما فيها احتمال النجاح والفشل، والنجاح يتوقف على بلورة إستراتيجيات جديدة بديلة من الإستراتيجيات المعتمدة سابقاً، خصوصاً إستراتيجية المفاوضات كطريق وحيد والمقاومة المسلحة كطريق وحيد، اللتين وصلتا إلى طريق مسدود أدى ويؤدي إلى تآكل الأرض والقضية والحقوق والوحدة على مذبح الدفاع عن سلطتين بلا سلطة: الأولى تحت الاحتلال المباشر، والثانية تحت الاحتلال من خلال الحصار والعدوان.