(1) بعد أن وصل قطار ما سمي التسوية السلمية للصراع مع كيان الاحتلال الاستيطاني العنصري إلى نتائج كارثية، حيث تكرّس الاحتلال بكل أشكاله،
فتضاعف الاستيطان في الضفة الفلسطينية ثلاثة أضاعف ما كان عليه قبل انطلاق مشروع التسوية في (مدريد)، الذي جاء عقب انتهاء حرب الخليج الأولى "عاصفة الصحراء"، وانهيار المنظومة الشرقية، وتفرد الإدارة الأمريكية في قيادة العالم.
نعم، استمرت الجولات المكوكيّة في واشنطن مع وفد فلسطيني من الداخل بقيادة الدكتور حيدر عبد الشافي، وعضوية حنان عشراوي وصائب عريقات، غير أنّ تلك المفاوضات اصطدمت باستحقاقات القضايا المصيريّة (حق العودة، والحدود، والاستيطان، والقدس، والسيادة).
(2)
لكنّ مفاوضات من نوعٍ آخر (أوسلو) كانت تجرى في الخفاء، يقودها أمين سر منظمة التحرير آنذاك "محمود عباس"، مع فريق خاص شكّل لهذه المُهمّة التي لم تنجح إلا في القفز عن القضايا المصيرية التي سميت قضايا الحل النهائي، وسبق الإشارة إليها.
وكان تبرير قيادة المنظمة لذلك القفز بأنّه مرحلي، وأنّه جاء بعد أن وصلت قيادة المنظمة إلى مرحلة "موت إكلينيكي"، بسبب ما مرت به من سلسلة انتكاسات، وكان آخرها يومذاك الموقف الدّاعم لغزو الرئيس العراقي الراحل "صدام حسين" لدولة الكويت، وهي التي شهدت المراحل الأولى لميلاد حركة فتح في مطلع الستينيات من القرن الماضي.
وقد دفعت قيادة المنظمة بكل كوادرها إلى تدشين سلطة حكم ذاتي محدود في أجزاء من الضفة الفلسطينية وقطاع غزة، ظنًّا أنها ستمهد الطريق في مدة لا تتجاوز خمس سنوات لتنطلق مفاوضات الحل النهائي حيث يبلغ قطار التسوية محطته الأخيرة بدولة فلسطينية كاملة السيادة على حدود الرابع من حزيران 1967م.
(3)
وتمّت الجولة الأخيرة من المفاوضات في (كامب ديفيد) في الربع الأخير من عام 2000م، ولكنّ الأمور سرعان ما وصلت إلى طريقٍ مسدود، حين اصطدمت بأسوار القدس، فأعلن فشل المفاوضات.
وبعدها مباشرة تداعت الأحداث دراماتيكيًّا؛ فخرج الشعب الفلسطيني في كل محافظات الضفة والقطاع في انتفاضة شعبية (انتفاضة الأقصى)، سعيًا لتحقيق الحرية، وإنجاز الاستقلال الوطني، بعد أن فشلت (أوسلو) في تحقيق التحرير، ولو بحده الأدنى.
غير أن "انتفاضة الأقصى" التي استطاعت أن تفرض على الاحتلال الانسحاب من قطاع غزة وتفكيك المستوطنات فيه قطع طريق إنجازها في الضفة الفلسطينية ما عُرف بخريطة الطريق، التي دفع فيها "شارون" بعربة التّسوية أمام حصان الأمن، وأصبحت المعادلة: بقدر ما توفر أمنًا للكيان الذي يمارس أبشع الجرائم ووصفت بعضها بأنها ضد الإنسانيّة يعطينا الكيان امتيازات وتسهيلات.
ولهذا بات "التنسيق الأمني" المهمة الأبرز لقيادة السلطة في رام الله، ولم يكن مفاجئًا للمراقبين وصف قيادة المقاطعة "التنسيق الأمني" بالمقدس، وهو ما جاء على لسان رئيس السلطة المنتهية ولايته.
(4)
ولكن الجديد أن انتفاضة شعبية فلسطينية (انتفاضة القدس) قد انطلقت بعد انتظار طويل لموعد خريطة الطريق بنهاية تحقق شيئًا يمكن البناء عليه في مسيرة التحرير والعودة، غير الاستمرار بتهويد كل المعالم الفلسطينية، وإطلاق يد عصابات المستوطنين المجرمة لتمارس أبشع الجرائم، تحت حماية جيش الاحتلال وأجهزة التنسيق الأمني.
والسؤال الذي برسم الجواب: ما هو الواجب فلسطينيًّا تجاه هذه الانتفاضة الشعبية التي تواجه الخنق والمحاصرة من أعدائها ومنظريها؟
نعم، تواجه هذه الثورة الشعبية حالة تنكر وخنق من قبل السلطة في رام الله، التي تجد في انتفاضة ثالثة تهديدًا مصيريًّا لكيانها القائم على استمرار "التنسيق الأمني" الذي لا يخدم سوى المصالح الاحتلالية، لكن كيف تواجه هذه الانتفاضة خنقًا من منظريها؟
فلطالما سمعنا _ونسمع_ أن الضفة الفلسطينية هي مستقبل الانتفاضة والمقاومة، لاسيما بعد أن قطعت غزة شوطًا متقدمًا في هذا الإطار، وحدث الانسحاب الكامل من كل أنحاء القطاع في حدوده المعروفة، غير أن ممارسات كثيرة غير مدروسة في قطاع غزة أخذت تتجه بالرأي العام إلى مناحٍ لا تخدم بالمطلق مسيرة الثورة المشتعلة بقوة إرادة الشعب الفلسطيني.
(5)
فمن الواجب الذي يفرضه ثوارنا المنتفضون في الضفة الفلسطينية والقدس الشريف عدم شغل الساحة الفلسطينية في القطاع الذي يعد نقطة دعم وإسناد قوية لمسيرة الثورات الفلسطينية بمعارك وهميّة، وأخرى جانبيّة، لا معنى لها غير صرف الأنظار بقصد أو دون قصد عن مسيرة الثورة.
ومن الواجب أيضًا توحيد القطاعات الشعبيّة الفلسطينيّة كافة لدعم الانتفاضة الفلسطينية بكل أسباب ديمومتها وتصاعدها أدائها الثّوري، حتى تحقّق موعودها بـ"التّحرير والعودة"، وهذا ما يعد مبرر وجود لكل الفصائل الفلسطينية التي تنادي بهما منذ أكثر من خمسة عقود.