أن يمضي شهران ونصف الشهر على الاشتباك الانتفاضي الميداني، بما يتخلله من أعمال مقاومة شعبية، يعني أن بطش الاحتلال أخفق في إخماده، مثلما فشلت محاولات إجهاضه بـ"حيلة" "التهدئة" التي أطلقها كيري وتبناها كل حلفاء واشنطن من العجم والعرب.
أما أن تنتقل أجهزة الاحتلال "الأمنية" من تسمية ما تواجهه في الميدان بـ"الموجة العابرة" إلى تسميته "انتفاضة ستستمر" حسب آخر تقديراتها، فيعني إقراراً ضمنياً بأن لا "حلّ أمنياً" أو اقتصادياً للاشتباك الميداني، وبأن محركه الأساس هو التطلع للحرية والاستقلال، وليس "سوء الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية". هذا التقدير الأمني "المهني" يعرفه أركان حكومة الاحتلال الاستيطانية الفاشية، (خصوصاً رئيسها نتنياهو ووزير حربها يعالون)، لكنهم لا يريدون الاعتراف به، ذلك ببساطة لأنهم في غير وارد إنهاء الاحتلال، ما يدعوهم للتشبث، عن وعي، بنظرتهم الصهيونية: "العربي يخضع للقوة"، و"تحسين شروط معيشته كفيل بتهدئته"، كنظرة عنصرية استعلائية استشراقية هزها بعنف عنفوان الاشتباك الجاري، وأسقطها الشعب الفلسطيني. كيف لا؟ وهو الذي لم يستسلم لاختلال ميزان القوى على مدار عقود الصراع، بل واصل الكفاح لانتزاع حقوقه، وقدّم في سبيلها، طواعية وعن طيب خاطر، نحو 120 ألف شهيد، ونحو ثلاثة أرباع مليون أسير، وأضعافهم من الجرحى، ما يعني أن الاشتباك الجاري إن هو إلا محطة من محطات النضال الوطني الفلسطيني التحرري المديد. ماذا يعني الكلام أعلاه؟
لقد تمادت سياسات الاحتلال الصهيوني لدرجة الظن بأنه يمكن تبديد اليقظة الوطنية للشعب الفلسطيني، وتفكيك بنيته ونسيجه، وتبديد هويته الوطنية الكفاحية، وصولاً إلى تصفية حقوقه الوطنية والتاريخية، كناظم لكفاحه الميداني على مدار نحو قرن من الزمان. أما الولايات المتحدة، راعي مفاوضات مدريد-أوسلو، فقد أمعنت في "لعبة" "الخصم الحكم"، حيث أشاعت، ولا تزال، كذبة أن "واشنطن مع حل الدولتين"، فيما لم تفضِ رعايتها لمسار المفاوضات الذي استمر ربع قرن من الزمان، إلى استقلال وطني ولو على "حدود 67"، ولا حتى إلى وقف التوسع الاستيطاني الذي حوَّل "القدس الشرقية" إلى معازل عربية محاطة بأسيجة يهودية، والضفة إلى عشرات القطع التي تفصلها الشوارع الالتفافية وتحاصرها المستوطنات ويقطع أوصالها جدار الضم والتوسع، وقطاع غزة إلى سجن كبير لتجمع سكاني محاصر ومخنوق تعرّض لثلاثة حروب في أقل من عقد من الزمن، ويخيّم عليه شبح المزيد من حروب الإبادة والتدمير. هذا ناهيك عن استثناء اللاجئين، بما هم أصل القضية وجوهر الصراع، من أي بحث تفاوضي، ومثلهم "فلسطينيو 48" الذين يواجهون اليوم مشروع برافر لتهويد النقب، وما انفكوا يتعرضون لتطهير عرقي مخطط، ولتمييز عنصري مقونن لا يعترف بخصائصهم الجماعية وينكر حقيقة أنهم جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني.
بذلك لم يبق أمام الشعب الفلسطيني سوى أن يستعيد زمام المبادرة، وأن يجترح، بالدماء، مساراً انتفاضيا ميدانياً بديلاً، حافظ على استمراريته، ولديه ديناميات تزيح عنه احتمالية الخبو قريباً، اتصالاً بأن محركات شعتله الأولى ما زالت قائمة، بينما تزيدها اشتعالاً دماء الشهداء، (125 شهيداً حتى الآن)، وآلاف الجرحى، ناهيك عن آلاف المعتقلين، وجرائم احتجاز جثامين 50 شهيداً، وفظاعات الإعدام الميداني، ووحشية التمثيل بجثث الشهداء وأجساد الجرحى والتنكيل بالأسرى، والأطفال منهم بالذات، وهدم البيوت، وإغلاق مداخل الكثير من القرى والمخيمات وأحياء بعض المدن.
وكل ذلك من دون أن ننسى أن الجيل الشبابي، (بين 16-26 سنة)، الذي يتصدر الميدان، يزيد اليوم، (في "مناطق 67" وحدها)، عن المليون، بينهم 200 ألف طالب وطالبة في الجامعات، وأكثر منهم على مقاعد الدراسة الثانوية. علماً أن هذه الفئة العمرية هي جيل القتال لدى كل الشعوب. وبالتالي، بداهة أن يكون الشباب الفلسطيني، ذكوراً وإناثاً، المؤطر منه وغير المؤطر، هو العنصر الأكثر فعالية في الاشتباك الانتفاضي الجاري، وقبل ذلك في انتفاضتيْ 87 و2000، بل وفي جميع محطات النضال الوطني الفلسطيني، اتصالاً بما يحمله شباب فلسطين، ككل شباب العالم، من تطلعات وطاقات ومبادرات وأحلام كبيرة واستعداد عالٍ للتضحية، عدا خصوصية انتمائه إلى شعب مكافح يناهز اليوم 13 مليوناً، ويختزن خبرات تجربة نضالية غنية ومديدة، ويستند إلى حقائق تاريخية تؤكد تعرّضه لعملية تطهير عرقي بشعة عام 48، ولاحتلال عسكري صاحبه نزوح قسري عام 67، ويتسلح بقرارات دولية تعترف بالحد الأدنى من حقوقه الوطنية والتاريخية العادلة الأصيلة.
لكن، لا يجوز تبسيط الأمور. فسياسة الاحتلال الهجومية لم تتراجع قيد أنملة، بل وتتخذ طابعاً أكثر فاشية. ما يعني أن ثمة تحديات تواجه الفعل الانتفاضي الميداني، أبرزها القدرة على تجسير الهوّة بين "الميداني" و"السياسي"، وامتصاص إجراءات الاحتلال، والحفاظ على الطابع الشعبي للاشتباك، وتوسيعه باستمالة قطاعات جديدة للانخراط فيه، بأشكال مختلفة، منها، (مثلاً)، أن تنظم الفصائل مسيرات مشتركة دورية وحاشدة في الضفة وقطاع غزة، وما أمكن في مناطق 48 والشتات واللجوء، لما لذلك من أبعاد سياسية ومعنوية. فاستمرار الاشتباك الميداني، على أهميته، لا يعني انتقاله، تلقائياً، إلى فاعل سياسي لدحر الاحتلال ونيل الحرية والاستقلال، كهدف وطني ناظم يعترض سبيله، وسبيل تشكيل قيادة وطنية موحدة موثوقة تحمله، إرث أوسلو والانقسام. إذ على الرغم من مرور شهرين ونصف الشهر على الاشتباك الميداني، إلا أن خطوة سياسية واحدة عملية وجادة لم تتخذ لإنهاء المفاعيل السلبية المدمرة لـ22 عاماً من أوسلو، ولـ8 سنوات من الانقسام، ذلك، على الرغم من أن بين أهم ما حصده الاشتباك الميداني حتى الآن يتمثل في استعادة الروح الوطنية وقيمها، وفي تخلُّص الوعي الوطني الفلسطيني، في مجمله، والشعبي منه خصوصاً، من خدعة أن مسار المفاوضات سيفضي لدولة، يضاعف مصاعب إمكانية انتزاعها بالنضال الانقسام.
إزاء هذه التحديات ثمة استحقاقات سياسية وتنظيمية لا بد للفصائل، عموماً، ولطرفي الانقسام خصوصاً، من تلبيتها، أبرزها إعادة ترتيب البيت الداخلي باستعادة الوحدة الوطنية، وتجاوز "أوسلو" والتحلل من التزاماته السياسية والأمنية والاقتصادية. فالتغني بالوحدة الميدانية غير كافٍ، ويشي بعدم الكف عن خطاب احتكار الوطنية، وبالتهرب من اعتبار الاشتباك الميداني الحلقة المركزية، ما يضعف الثقة بأن الشعب الفلسطيني، وليس أياً من فصائله، هو الحقيقة التي يتعذر تبديدها أو تجويفها، ويشوش حقيقة أن الاحتلال يريد تحويل السلطة الفلسطينية، بشقيها في الضفة وغزة، لوكيل أعمال، وهو ما لا تقبل به قيادة فلسطينية، "معتدلة" كانت أو "متشددة"، ما يفرض التخلص من أوهام أن ثمة فرصة لتسوية سياسية، سيان بالتفاوض المباشر أو غير المباشر. وخطاب نتنياهو الأخير في الجمعية العامة واضح لا لبس فيه، وجوهره: لا دولة فلسطينية خلال الـ20 سنة القادمة، ولا انسحاب من الأغوار، ولا وقف للاستيطان، وعلى الفلسطينيين الاعتراف بـ"إسرائيل" "دولة يهودية"، وبـ"القدس عاصمة أبدية" لها.
خلاصة القول: استمرار الاشتباك الميداني بوتيرته الحالية هو سيناريو مرجح، ومهم، بلا أدنى شك، إنما كمحطة أولى أزاحت التراخي وبددت الكثير من الأوهام، وأربكت الاحتلال، وكبّدته خسائر متنوعة، لكنه لن يفضي لإنهاء الاحتلال، ولا حتى لأي من أشكاله، (السياسية والعسكرية والأمنية والاستيطانية والاقتصادية)، ما لم تتوافر له، (الاشتباك الميداني)، الركائز الوطنية الموحدة: السياسية والتنظيمية والميدانية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كشروط تكفل تحويل الفعل الميداني إلى خيار سياسي بديل لأوسلو والانقسام، يسلتهم، (ولا أقول يستنسخ)، خبرة انتفاضة 87، في شروط سياسية وميدانية مخلتفة، ويتسلح بالهدف الوطني الناظم: إنهاء الاحتلال ونيل الحرية والاستقلال. هذا هو الشرط السياسي لتطوير الاشتباك الميداني وتوسيعه وحمايته من المراوحة في المكان والخبو بتدرج، ومن إجراءات الاحتلال الهجومية الفاشية المتصاعدة.