لئن كانت منظومة الفكر الصهيوني التوسعي العدواني هي المحرك الأساس للسياسة الإسرائيلية، وهي كذلك بامتياز حتى الآن، فإن أياً من حكومات إسرائيل لن تجنح - طوعاً - للتسوية السياسية سبيلاً لحل الصراع، ولن يكف أي منها عن استخدام القوة العسكرية ومصادرة الأرض واستيطانها وتهويدها وسيلة للتخلص من جوهر هذا الصراع العربي الإسرائيلي
، (القضية الفلسطينية)، وطمسه على طريق تصفيته. هنا استخلاص تجيزه - واقعياً ومنطقياً - حقيقة أن إسرائيل قامت وتوسعت وامتلكت كل عوامل قوتها، وأخطرها ترسانتها النووية، ضد حقائق التاريخ والثقافة والجغرافيا والديمغرافيا في المنطقة، وعلى حساب الشعب العربي الفلسطيني وحقوقه، وضد استقرار وأمن وتنمية الشعوب العربية وشعوب المنطقة كافة. وكل ذلك في إطار أداء وظيفة استعمارية دائمة ومفتوحة، ولعبِ دور شريك استعماري حارس ومحروس.
ما دامت هذه هي حقيقة إسرائيل وحكوماتها منذ قيامها، فإنه من المنطقي القول: زائف كلام حكومة نتنياهو، وهي حكومة استيطان ومستوطنين بامتياز، عن السلام والتسوية السياسية للصراع التاريخي المفتوح والمعقد بين المشروع الوطني الفلسطيني التحرري والمشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني الإحلالي. وكذا فإنه لا يقل زيفاً كلام إدارة أوباما عن نيتها لعب دور من شأنه إيقاف عجلة المصادرة والاستيطان والتهويد لما تبقى من الأرض الفلسطينية في الضفة والجليل والمثلث والنقب، المراد ابتلاع 8000 دونم من أرضها واقتلاع أهلها وملاكها الفلسطينيين منها وحشرهم في رقعة لا تزيد على 1% من مجمل مساحة النقب، ذلك تنفيذاً لـ"خبطة" صهيونية كبيرة من التطهير العرقي وضع خطتها داخل مكتب نتنياهو، وبإشرافه، الصهيوني "برافر"، بما يعيد للذهن أكبر خطة لتهويد الجليل التي صاغها في العام 1976 متصرف لواء الشمال، الصهيوني كينغ، لكنها لسوء حظه ومعه حكومة إسرائيل آنذاك قادت - على طريقة انقلاب السحر على الساحر - إلى قفزة نوعية في سياق النضال الوطني الفلسطيني الممتد في الدفاع عن الأرض، قفزة هبة يوم الأرض الخالد.
"الفلسطينيون يسرقون أرض الشعب اليهودي في النقب"، و"السلام ممكن بتوفير الأمن للإسرائيليين والاقتصاد للفلسطينيين"، قال ليبرمان العائد لتوه إلى وزارة الخارجية. و"مهم للسلام أن نطمئن على إقرار الفلسطينيين بـ"الروابط التاريخية بين الشعب اليهودي وأرضه منذ أربعة آلاف سنة" قال نتنياهو مؤخراً. ولا عجب، فحكومة الاستيطان والمستوطنين بقيادة نتنياهو - ليبرمان هي أكثر حكومات إسرائيل إصراراً على مطلب اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل غير محددة الحدود "دولة للشعب اليهودي". لذلك صار يقيناً أن تصفية القضية الفلسطينية هي جوهر إستراتيجية هذه الحكومة وخططها، بشقيها السياسي، (إدارة المفاوضات لأجل المفاوضات)، والميداني، (تصعيد وتيرة مصادرة الأرض واستيطانها وتهويدها). ماذا يعني هذا الكلام؟
إن مواجهة مخطط حكومة الاستيطان والمستوطنين لتصفية القضية الفلسطينية، وجوهرها حق العودة، تحتاج إلى العمل على إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني بعد أن فككت عشرون عاماً من التفاوض عناصره، وإلى إعادة تظهير الحقوق الفلسطينية التاريخية إنما دون مفاضلة أو مقابلة بينها وبين هدف إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة، فحق العودة المراد تصفيته بآلية إرجاء البحث فيه "هو الرابط" بين الحقوق الوطنية الراهنة والحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، خاصة بعد ثبوت أنه كان مجرد ضرب من الخيال تحقيق هدف إقامة دولة فلسطينية مستقلة وسيدة على حدود الرابع من حزيران 1967 عبر التفاوض في ظل موازين القوى القائمة، بل كان غير ممكن أصلاً خارج المقاومة الرافعة الأساسية لتحقيقه.
هنا تتضح الانعكاسات السلبية والخطرة لتراجعات الحركة الوطنية الفلسطينية وانقساماتها والتباساتها ومفارقاتها على أبعاد إدارة الصراع ومقتضياته، وطنياً وقومياً ودولياً. فالتراجعات الفلسطينية الداخلية والظروف الخارجية المجافية تتظافران وتشكلان معاً مصدر إحباط لكل محاولات إعادة تأصيل إدارة الصراع كما هو في الواقع، وكما تفرضه منذ سنوات حكومة الاستيطان والمستوطنين بقيادة نتنياهو. إذ بينما كانت الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الكبرى عام 1987 ملهما أساسياً للشباب العربي في إطلاق انتفاضات شعبية أبهرت العالم، نجد أن انقسام الحركة الوطنية الفلسطينية، ناهيك عن احترابها، هو قبل غيره ما يزرع الإحباط في أوساط الشباب الفلسطيني والجماهير الفلسطينية الغاضبة من التنازع على "سلطة" محدودة ومكبلة بقيود والتزامات سياسية وأمنية واقتصادية ثقيلة.
وكل هذا فيما تتقلص التربة تحت أقدام الفلسطينيين جراء سعار المصادرة والاستيطان والتهويد، عدا ما يتعرضون له في الوطن والشتات من تنكيل واستباحة غير مسبوقين. وتلك نتيجة طبيعية لسبب أن ثمة داخل النخب القيادية الفلسطينية من لا يريد أو لا يستطيع أن يرتقي إلى مستوى استعداد الشعب الفلسطيني وهمومه وطموحاته والمخاطر المحدقة بجوهر قضيته وحقوقه، بل لا يريد أو لا يستطيع أن يستجيب لمطالبه بإنهاء الانقسام الداخلي وبلورة الاتفاق أو التوافق على إستراتيجية وطنية شاملة تعيد قطار النضال الوطني إلى سكته الحقيقية بعد أن حاد عنها لسنوات لأسباب داخلية.
هنا يكمن سر مفارقة ألا تستفيد القضية الفلسطينية من التحولات الكبرى على الصعيد الدولي. فالاحتراب الفلسطيني الداخلي على التمثيل السياسي، وعلى "سلطة" يتحكم فيها الاحتلال، هو ما يحول دون توظيف هذه التحولات لمصلحة القضية الوطنية. وهذا أمر ممكن بالفعل، فعالم القطب الواحد ينسحب لمصلحة عالم متعدد الأقطاب، أصبح فيه حليف إسرائيل الإستراتيجي الثابت، الولايات المتحدة، قوة عظمى بين قوى أخرى تنافسها بقوة في ظل ما تعانيه من أزمة اقتصادية بنيوية متفاقمة، ومن فشل متتابع لحروبها ولسياساتها الخارجية، عموماً، والشرق أوسطية منها، خصوصاً.
وهنا يكمن أيضاً سر مفارقة ألا تستفيد القضية الفلسطينية من تحولات الحراك الشعبي العربي الذي يشكل في جوهره العام حالة استفاقة تعزز الأمل بالتغيير لمصلحة القضية الفلسطينية على المدى البعيد وربما المتوسط، ذلك رغم كل محاولات إجهاضه وحرف مساره عن أهدافه الحقيقية. فهذه المحاولات لن تقوى في التحليل الأخير على تفريغ أجندة هذا الحراك - بشكل تام ودائم - من الهموم والقضايا القومية، وأولاها القضية الفلسطينية، باعتبارها حالة موضوعية تفرض نفسها مع تطور الأحداث والتفاعلات الداخلية. فقضية فلسطين الحاضرة في الوجدان الشعبي العربي ستعود عاجلاً أو آجلاً مهماز تحريض على الأنظمة الرسمية العربية، "الجديد" منها و"القديم"، خاصة في ظل دخول إسرائيل وحلفائها على خط التحولات الشعبية العربية. وهو ما يملي على قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية المنقسمة على نفسها، إدراك عمق التحولات الدولية والقومية وعمق ما فتحته من فرصة واقعية لإعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة. وهو ما لا يمكن تصور حدوثه من دون مبادرة العامل الوطني الفلسطيني واستنهاضه وتفعيله وتصويب اعوجاجه، وإنهاء انقساماته الداخلية، وإعادة نظم جهوده وإمكاناته وطاقاته وصهرها في بوتقة برنامج وطني موحد يربط - دون مقابلة أو مفاضلة - بين المرحلي والنهائي من الأهداف والحقوق الفلسطينية، والتركيز عل التناقض - الصراع - الرئيس والمفتوح مع دولة احتلال استعماري استيطاني إجلائي تقودها اليوم حكومة استيطان ومستوطنين تعمل في السر والعلن على استغلال التحولات الدولية والإقليمية والعربية الكبيرة، بل التاريخية، وتوظيفها لمصلحة مخططها الرامي لتصفية القضية الفلسطينية، ما يتطلب إعادة توتير قوس الشعب الفلسطيني وتعزيز قدرته على الصمود والمقاومة بالمعنى الشامل للكلمة. تلك هي حقيقة إستراتيجية حكومة نتنياهو وخطتها بالمعنيين السياسي والميداني. وتلك هي استحقاقات ومتطلبات مواجهتها بجدية وبشمولية سياسياً وميدانيا، ودون ذلك لن يفضي إلا إلى استمرار تهميش القضية الوطنية الفلسطينية في ظل تحولات دولية وإقليمية وعربية كبيرة مطلوب من قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية التعمق في علاقات تناقضاتها ومركباتها المعقدة، وقراءتها بوعي وطني، لا لمحها لمحاً، وقراءتها بوعي الانقسام المريض الذي لن يقود بدوره إلا إلى التوظيف الفئوي البائس لهذه التحولات الكبيرة، بينما ثمة فرصة واقعية لتوظيفها لمصلحة القضية الوطنية.