لئن كانت القدس، بقيمتها الوطنية السياسية وأبعادها الروحية السماوية، عنوان الهبة الشعبية الجارية وما سبقها، منذ حزيران 2014، من هبات متتالية، فإن اتخاذ هذه الهبة ملامح انتفاضية متصاعدة، وانتقالها، بما يتخللها من عمليات طعن ودهس وإطلاق نار وزجاجات حارقة، إلى كامل مساحة فلسطين التاريخية،
إنما يعني أن كيل الشعب الفلسطيني، في جميع أماكن تواجده، قد طفح، وأن مرجله قد غلى، حتى صارت شرارة واحدة كافية لإشعال كامل سهله. وهذا ما تشير إليه، بلا شك أو لبس، استجابة جماهير مدن وقرى ومخيمات الضفة، واستماتة الشباب على أسيجة قطاع غزة المحاصر في الشجاعية ورفح وخانيونس وبيت حانون، وخروج القلعة العربية الفلسطينية الشامخة، الناصرة، في مظاهرة كبرى أعلنت المشاركة لا التضامن، وانتصاب قامة يافا وكفر كنا وأم الفحم وكفر قاسم وسخنين التي شهدت مهرجاناً وطنياً بعد مسيرة رفع فيها عشرات الألوف العلم الفلسطيني، وصولاً إلى ما نظمه اللاجئون من مسيرات واعتصامات في مخيم برج البراجنة وعمان وبيروت وتونس ولندن وكندا والمانيا والسويد والدنمارك وأستراليا وغيرها من مواقع اللجوء والشتات الفلسطيني.
وهو ما أذهل العالم، وأطلق منارة في ليل عربي بهيم، وأربك حكومة الاحتلال الفاشية بقيادة نتنياهو، وقلب حسابات أجهزتها الأمنية رأساً على عقب. ففيما مضت سنوات قبل أن يقرّ رابين بفشل سياسة "تكسير العظام" في إخماد انتفاضة 87، نجد رئيس حكومة المستوطنين، المتنمر نتنياهو، يعلن بعد أيام معدودة "أن لا حلول سحرية" للهبة الشعبية الجارية. بهذا، يكون نتنياهو قد أعلن بنفسه أولى انجازات هذه الهبة، حتى وإن رفض سياسياً اقتراح استقدام مراقبين دوليين إلى الأقصى، تعبيراً عن تفسيره التهويدي لعبارة "التهدئة" و"الحفاظ على الوضع القائم"، كعبارة حمالة أوجه يقدمها كيري، في ظل صمت رسمي عربي، لإجهاض هذه الهبة واحتواء مفاعيلها. أما ثاني الإنجازات، فإعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة بعد طول تهميش تصرّ واشنطن على إدامته. أما ثالث الإنجازات، فتبدد كذبة "القدس موحدة" بإجراءات محاصرة أحياء القدس وعزلها، وتسييجها بجدرٍ، وتحويلها إلى ثكنات عسكرية، ونشر المزيد من قوات الشرطة فيها، وتعزيرها بقوات من الجيش، وتسريع إجراءات هدم البيوت وسحب بطاقات الهوية، وتكثيف عمليات الاعتقال الإداري والإعدامات الميدانية والتهديد بفرض حظر التجول، لنكون تماماً أمام إعادة غير معلنة للحكم العسكري في القدس، ذلك بعد عقود من مزاعم النجاح في ضمها وتوحيدها وإعلانها "عاصمة أبدية" لـ"إسرائيل". ويتمثل رابع الإنجازات، وهنا الأهم، في تظهير فشل عقود من مساعي توطين اللاجئين و"أسرلة" "مناطق 48"، وتفكيك "مناطق 67". كيف لا؟ وقد أعاد الشعب الفلسطيني بتوحده خلف هبة القدس التأكيد على وحدته ووحدة أرضه وبنيته ونسيجه، ما يعبّر عن تجذر هويته الوطنية الكفاحية، وعن تشبثه بأهدافه وحقوقه الوطنية التحررية في الحرية والاستقلال والعودة، بوصفها نواظم فعله الشعبي ومحركه الأساس منذ حدوث النكبة وحتى يوم الناس هذا. أما خامس الإنجازات، فإعلان الشعب الفلسطيني، في الميدان، أنه يرفض البقاء رهينة لسياسة مسار تفاوضي عقيم وانقسام داخلي مدمر، وأنه، كما كان دوماً، مَن يعيد، حين يجد الجد، البوصلة إلى وجهتها، وأنه جاهز، إن اقتضى الأمر، لتجاوز أطره القيادية المنقسمة والمترددة والمتلكئة، وأنه في غير وارد حساباتها ومصالحها الفئوية الضيقة، ولا يلتفت لخلافاتها ومماحكاتها. ولم لا؟ وهو الشعب المثقل والموجوع باستباحات الاحتلال الشاملة.
هذه هي، حتى الآن، إنجازات جماهير الشعب الفلسطيني، بما تفعله منذ أسابيع، إن كان في الميادين أو في تنظيم الجنازات الحاشدة المهيبة للشهداء، ما يشكل استفتاءً شعبياً لمصلحة خيار مواصلة الكفاح الوطني الدفاعي متعدد الأشكال. وهو ما يوجب ويستدعي ويفرض ويتطلب تعزيز الوحدة الوطنية الميدانية بخطوة فعلية لإنهاء الانقسام، كخطوة من دونها يبقى مجرد لغو الحديث عن تشكيل "قيادة وطنية موحدة"، تدفع الفعل الانتفاضي المتصاعد إلى مداه، وتجدول فعالياته، وتحميه سياسياً من مساعي كيري المعادية، وتحدد هدفه السياسي الناظم: إنهاء الاحتلال والمطالبة بتوفير حماية دولية مؤقتة لشعبنا، كخطوة انتقالية على طريق تمكينه من ممارسة حقه في تقرير مصيره ببناء دولته المستقلة السيدة وعاصمتها القدس، على طريق تحقيق كامل عناصر البرنامج الوطني: العودة والدولة وتقرير المصير، غير القابلة للمبادلة أو المقايضة.
وهذه هي رسائل الشباب الفلسطيني، (المنظم منه وغير المنظم)، المنتفض، منذ أسابيع، في فلسطين التاريخية من أقصاها إلى أقصاها. فهذا الجيل الشبابي الجديد الذي يكاد يعانق عنان السماء في جسارته وعنفوانه وابداعاته، لا يلتفت، وأزعم أن أغلبه لم يلتفت يوماً، إلا إلى الراية الوطنية التي تزين جثامين الشهداء المحتفى بهم من عموم الجماهير الفلسطينية التي خرجت إلى الميادين بحسها الوطني الوحدوي المتعطش لمقاومة محتل عنصري فاشي يمتهن القتل والحروب والتطهير العرقي ويرفض أية تسوية سياسية تلبي ولو الحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية، فما بالك بالتاريخية منها.
لقد خرج الفلسطينيون، في جميع أماكن تواجدهم، إلى الميادين بعد أن تيقنوا من فشل 22 عاماً من جولات التفاوض العبثي المدمر، وبعد أن أعياهم نحو 10 سنوات من مماحكات واحتراب طرفي الانقسام. فتصاعد هبة القدس واتساع نطاقها واتخاذها ملامح انتفاضية لا لبس فيها، يؤشر، إلى قناعة الشعب الفلسطيني بعبثية مواصلة الرهان على مفاوضات اتفاقات داستها دبابات الاحتلال وجرافاته، وإلى قناعاته بلا جدوى التمسك بـ"تهدئات" لم يلتزم بها قادة هذا الاحتلال يوماً، لكنه يؤشر، أيضاً، إلى اضطرار أجياله الجديدة، إلى تعبئة الفراغ القيادي الناجم عن انقسام أطره القيادية، ما يدعوها إلى التعامل مع المعركة الجارية والمفتوحة، بالطريقة ذاتها التي تعاملت فيها مع حروب الإبادة والتدمير على غزة، ومع هبات القدس والضفة و"مناطق 48" السابقة، حين لم تبادر إلى إنهاء انقسامها، كخطوة كان من شأنها أن تمنع تبديد بطولات فذة وتضحيات جسيمة وابداعات نادرة وصمود أسطوري. لذلك لا أدري لماذا يستغرب البعض الحديث عن تجاوز الشعب الفلسطيني لقياداته المنقسمة؟ طالما أنه يخوض معركة مفصلية مفروضة وشرسة، سال فيها دم كثير، حتى صار ما بعدها غير ما قبلها، وبات صوته فيها عالياً وواضحاً في نأيه عن حالة الانقسام، بينما لم يدفع كل هذا طرفيه إلى التقدم خطوة عملية واحدة لطي صفحته السوداء. فهل من المعقول ألا يفضي هذا الفعل الانتفاضي المتصاعد إلى إنهاء هذا الانقسام، بما يفتح الباب لوحدة سياسية فصائلية تقود الفعل الميداني، وتوجهه، وتتقدم صفوفه، وترسم علامات طريقه. لقد كشف تصاعد واتساع نطاق هذه الهبة، كما لم يحصل من قبل، ظهر المنقسمين، وعرى ذرائع انقسامهم المدمر الذي يجعلهم يخشون بعضهم، وغير قادرين على الاقتحام وتبني الحركة الشعبية وقيادتها ببرنامج وطني وديمقراطي موحد يقرّ بدور الشعب ومشاركته، لا في صندوق انتخاب مؤسسات سلطة شكلية، بل في ميدان الفعل ورسم سياسة إدارة الصراع مع العدو، ما يوجب خطوة تعيد للشعب ثقته لا بنفسه، فهو يمتلكها ويعتد بها، بل بقيادته التي ينبغي أن تكون بمستوى تطلعاته وطموحاته وأحلامه وآماله ومآثره وبطولاته وتضحياته وصموده الأسطوري.
قصارى القول: بعد كل هذا العدد من الشهداء والجرحى والمعتقلين، وبعد هذا الانتشار والتصاعد في الفعل الشعبي في مواجهة قمع جيش الاحتلال الفاشي واستباحات عصابات مستوطنيه، لم يعد السؤال هل ينبغي إنهاء الانقسام، بل متى ينتهي كي تضطلع الفصائل بدورها في قيادة شعبها الذي يسبقها في إجتراح المآثر وتقديم البطولات والتضحيات؟ فيما لا نزال دون إنهاء الانقسام، ودون كسر حلقات ثقافته، ودون توحيد الجهود والإمكانات والطاقات وصبها في المواجهة المفتوحة على مصراعيها، وعلى كل الاحتمالات، حيث لم يعد مسموحاً أو جائزاً أو مشروعاً، استمرار الانقسام، وبالتالي إعاقة تشكيل "قيادة وطنية موحدة"، تقوم بالمسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقها، في توجيه الفعل الانتفاضي الشعبي المتصاعد، بما يطوره لانتفاضة شعبية شاملة وممتدة، تصعِّب على احتلال متغطرس، اللجوء، كما لجأ سابقاً، إلى استخدام كامل قوته العسكرية، سواء في الضفة أو في غزة أو في كليهما، بهدف قلب الحقائق، وتصوير ما يجري على أنه حرب بين جيشين وليس مقاومة شعب لاحتلال عنصري فاشي إقصائي يجثم على صدره. فسيناريو الذبح العسكري للفعل الشعبي ما زال وارداً، فيما يتأبط كيري، في ظل صمت رسمي عربي، شر سيناريو الذبح السياسي.