لم يكن مستبعداً أن تتحول أوكرانيا إلى ساحة حرب باردة بين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الغربيين من جهة، وبين روسيا التي تقف بالباع والذراع لحماية مصالحها الاستراتيجية في شبه جزيرة القرم، حيث يتواجد الأسطول الروسي هناك.
روسيا التي عززت تواجدها العسكري في القرم قامت بهذا الإجراء لأكثر من سبب، الأول أنها لا تريد بسكوتها السماح للأميركان والغرب بالاستئساد عليها وكأنها غير قادرة على حماية مصالحها، أضف إلى ذلك أن موسكو التي وقفت بقوة إلى جانب سورية، لا يمكن أن "تطنش" دولة مهمة وجيو استراتيجية تلاصق حدودها.
السبب الثاني يتعلق برغبة روسية شديدة في كسر احتكار نظام القطبية الأحادية الذي تربعت على عرشه الولايات المتحدة لسنوات طويلة، ولعل روسيا قدمت موقفاً واضحاً مما يجري في سورية، الأمر الذي أعاد إنتاج مفهوم الحرب الباردة على قاعدة تشكل النظام الدولي بوجود لاعبين دوليين متعددين.
أما السبب الثالث فيتصل بشعور موسكو بالخديعة من جانب الدول الغربية، والأمر يعود إلى توقيع اتفاق سبق الإطاحة بالرئيس المعزول يانوكوفيتش، وجرى بين الأخير وأطراف المعارضة الداخلية، وبمباركة وزراء خارجية ألمانيا وفرنسا وبولندا وموافقة روسيا أيضاً.
الاتفاق الذي كان من شأنه نزع فتيل الأزمة، تلخص في إجراء انتخابات مبكرة والشروع في إصلاحات دستورية وكذا تشكيل حكومة وحدة وطنية، لكن المعارضة الأوكرانية وخصوصاً اليمينية منها، استمرت في الاحتجاجات إلى أن قام البرلمان الأوكراني بعزل يانوكوفيتش.
السبب الرابع الذي دفع روسيا لتمكين وجودها في القرم، ينطلق أساساً من الأهمية القصوى لشبه الجزيرة هذه، التي تطل على البحر الأسود وتشكل بموقعها الجيو استراتيجي، أهمية بالغة لروسيا التي لن تفرط بها أو تتخلى عنها بأي شكل من الأشكال.
لقد خاضت روسيا مفاوضات مع مختلف الحكومات الأوكرانية المتعاقبة لتأمين وجودها العسكري في شبه جزيرة القرم، ونجحت عام 2010 في توقيع اتفاق بين رئيسها آنذاك ديمتري مدفيديف ونظيره المعزول حالياً يانوكوفيتش لإبقاء الأسطول البحري الروسي في القرم لغاية العام 2042، مقابل رصد مبلغ 100 مليون دولار مقدمة من روسيا إلى أوكرانيا وتخفيض أسعار الغاز الروسي المصدر لكييف إلى نحو الثلث.
وتخشى روسيا أن تفقد وجودها العسكري في القرم مع احتمالات فسخ اتفاقية الأسطول الروسي، الأمر الذي دفعها بتعزيز قبضتها تحت غطاءين، الأول لحماية مواطنيها الروس الذين يشكلون أكثر من 57% من سكان القرم، وثانياً لتأكيد رفضها الانقلاب الذي دبرته المعارضة بالتآمر مع الغرب للإطاحة بيانوكوفيتش.
في كل الأحوال تعتقد روسيا أن أمر وجودها في القرم هو مسألة حياة أو موت، وأن حقها في الوجود هناك سيعني فرملة تمدد حلف الشمال الأطلسي "الناتو" الذي يضع أوكرانيا في الحسبان لجهة جذبها إلى المعسكر الغربي ودمجها في الحلف العسكري.
تاريخياً كانت روسيا تنظر إلى القرم بطريقة استثنائية، فقد دخلت في حروب صعبة أيام الإمبراطورية مع كل من فرنسا وبريطانيا والعثمانيين، ومن ثم مع الآخرين للاستحواذ عليها، وبعد الحرب العالمية الثانية وتقهقر جيوش هتلر، أصبحت سيفاستوبول قاعدة بحرية مهمة للاتحاد السوفيتي آنذاك.
ليست فقط شبه جزيرة القرم تشكل أهميةً لدى روسيا، إنما أوكرانيا ككل تنظر إليها موسكو بأهمية قصوى، لاعتبارات كثيرة جغرافية وديمغرافية وسياسية وأمنية واقتصادية أيضاً، في مقدمتها مرور البضائع الروسية بما فيها الوقود والغاز إلى أوروبا عبر الأراضي الأوكرانية.
الآن هناك حالة مخيفة من الشحن والعصبية الأميركية والغربية إزاء ما يجري في أوكرانيا، وتصدر بين الوقت والآخر تصريحات متنوعة تستهدف دراسة فرض عقوبات اقتصادية غربية على موسكو، والتلويح بتعليق مشاركة بعض الدول في الأعمال التحضيرية لقمة الثمانية الكبار في سوتشي.
التصعيد الغربي المتسارع إزاء روسيا يقابله رد فعل روسي وتصعيد موازٍ، ذلك أن الحديث ليس سهلاً في هذا الإطار خصوصاً في قائمة دول كبيرة وعظمى مثل الولايات المتحدة والدول الغربية وروسيا، الأمر الذي يعني أنه في حال اتخاذ خطوات فعلية بالتصعيد ضد روسيا سيعني ذلك تأثر جميع الأطراف.
الأميركان وإن رفعوا سقوف تحذيراتهم واتفقوا مع الغرب على دراسة الوضع الأوكراني، فإنهم بالتأكيد يدركون حجم روسيا وتبعات أي قرار سياسي أو اقتصادي يتخذ بحقها، لذلك ربما تسعى الدول الغربية من وراء هذا التصعيد لاستثماره في أي جولة مفاوضات من المحتمل أن تنعقد مع روسيا.
امس، التقى كل من وزير الخارجية الأميركية جون كيري بنظيره لافروف في باريس، وإلى جانبهما شارك وزراء خارجية كل من ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، ومع ذلك كانت المفاوضات صعبة ولم تحقق أي نتائج، ومن المرجح استكمالها وفتح مسار تفاوضي بين روسيا وأوكرانيا.
وبموازاة ذلك، لم تهدأ اللغة التصعيدية وجرى عقد قمة أوروبية عاجلة لمناقشة سبل الرد على الوجود العسكري الروسي في القرم، مع ذلك هناك دول في أوروبا مثل ألمانيا، ترغب في الحوار مع موسكو لتأمين مخرج آمن يحقق التوافق حول الأزمة الأوكرانية.
وإن يبدو أن المفاوضات التي جرت ومن المرجح أن تستكمل بين مختلف الأطراف تتعلق بالشأن الأوكراني، لكن ربما تكون هذه الأزمة جزءا من مطالب ونقاشات لأهداف أخرى تتعدى المشكلة الأوكرانية، وقد لا يجد الفرقاء أفضل طريقة من تسويتها ومعالجتها إلا عبر المدخل الأوكراني.
وعلى كل حال، لا يزال الخيار العسكري المتصل باحتلال روسيا لشرق أوكرانيا غير وارد أو مستبعد في المنظور الحالي، إنما قد يكون السيناريو الأنسب للأزمة الأوكرانية عدا عن "بروباغندا" التصعيد العقابي الناعم الذي يستهدف التلويح بخيارات متنوعة غير مرتبطة بفعل عسكري انتقامي، نقول إن السيناريو الأنسب والأوفر حظاً يتصل باستكمال مسار المفاوضات بين مختلف الأطراف.
هذا يعني أن موسكو لن تتخلى عن حقها الوجودي في القرم، ويُعتقد أن المفاوضات المقبلة ستأخذ هذا الموضوع بعين الاعتبار، إلى جانب مساعي صياغة توافق حول انتخابات مبكرة تأخذ بعين الاعتبار الخارطة الديمغرافية لأوكرانيا، وعلى أن يتم تشكيل حكومة وحدة وطنية.
ولعل هذا كله مرتبط بطبيعة الحال بالمفاوضات وحالة الشد والجذب بين الأطراف الداخلة في الأزمة الأوكرانية، ومع ذلك يبقى خيار روسنة القرم قائماً، خصوصاً بعد مصادقة البرلمان القرمي على قانون لانضمام المنطقة إلى روسيا وعرضه للاستفتاء الشعبي منتصف الشهر الحالي.
أخيراً، يمكن القول إن روسيا لن تتنازل عن مصالحها الاستراتيجية، وهي تعتبر شبه جزيرة القرم قطعة مسلوخة من جلدها، الأمر الذي سيدفع موسكو للتمسك بهذه المنطقة بيدها وأسنانها، مهما كلفها ذلك من مفاوضات أو مواجهات عقابية سياسية أو اقتصادية.