صفعة جديدة يتلقاها وزير الخارجية الأميركي جون كيري، الذي زار المنطقة بهدف طمأنة الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي وحثهما على المضي قدماً في مفاوضات يبدو أنها عقيمة، ولن تصل بحال من الأحوال إلى توافق يلبّي الحد الأدنى فلسطينياً. هي صفعة لكيري وللسلطة الفلسطينية وللمفاوضات، لأن الحكومة الإسرائيلية وكما كل مرة
، وتحديداً في جولات كيري إلى المنطقة، كانت تستقبله بطرح عطاءات لبناء وحدات سكنية في الضفة الغربية، الأمر الذي بات يلمح إلى أن كيري ربما يأتي لمباركة الاستيطان والموافقة عليه، أو أن إسرائيل تنظر إلى مصالحها الشخصية ولا تقيم وزناً كبيراً لحليفها الأميركي.
حين كان يطير كيري في الجو قاصداً المنطقة، أعلنت إسرائيل عن بناء آلاف الوحدات السكنية، وحقيقةً يصعب حصرها من كثرتها ومن شدة الإفراط في الإعلان المستمر عن تلك العطاءات، لكن المستجد في الموضوع الجديد القديم، هو مطالبة نتنياهو الفلسطينيين الاعتراف بيهودية الدولة، وإلغاء حق العودة.
أكثر من ذلك، أن نتنياهو انتقد الطرف الفلسطيني واتهمه بالاستمرار في اصطناع الأزمات، وعدم قدرته على اتخاذ قرارات قوية تساهم في صنع سلام حقيقي، وهذا الموقف الصادر عن نتنياهو ليس مستغرباً، لأنه ضليع في استخدام تكتيك الهجوم للدفاع عن معتقداته وسياسته.
المهم أن كيري جاء إلى المنطقة والتقى الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وبدت جولته التي لا تحمل أي جديد على الساحة السياسية، نقول إن هذه الجولة بدت وكأنها تحاول تركيب أرجل اصطناعية لتثبيت المفاوضات الثنائية لأطول فترة ممكنة.
كيري حينما التقى نتنياهو، قال: إن الولايات المتحدة تقف إلى جانب إسرائيل، ولما ذهب للقاء الرئيس محمود عباس، أكد على أن الاستيطان غير شرعي، وبدا كأنه يدافع عن الموقف الفلسطيني وعن عدم موافقة السلطة على استكمال النشاطات الاستيطانية مقابل إطلاق سراح 26 أسيراً.
حقيقةً وليس دفاعاً عن السلطة، إنما هذا الموقف يبدو أن إسرائيل صدَّرته لافتعال أزمة حقيقية تجعل من الطرف الفلسطيني يعلن انسحاباً أحادي الجانب من المفاوضات، وبالتالي يُلام على هذا الخروج المبكر، ذلك أن إسرائيل كانت طوال السنوات الماضية تبني المستوطنات وتعمّق الاستيطان، بدون أن تأخذ موافقة من أحد، حتى من الأميركيين أنفسهم.
لذلك أعتقد أن من غير المنطقي الحديث عن أن الجانب الفلسطيني وافق على البناء الاستيطاني في الضفة الغربية، لكن ما أقوله هنا: إن على الطرف الفلسطيني أن يقدم موقفاً صريحاً من الاستيطان، ولم يكن عليه السكوت عن تلك الأعمال، فقط من أجل ضغوط لا تخدم أولاً وأخيراً مسار السلام.
على الأقل، كان يمكن للطرف الفلسطيني أن يعلن مبكراً تجميد المفاوضات، خصوصاً وأن إسرائيل ماضية في هذا العمل الاستفزازي، ثم إن حديث كيري عن أن الاستيطان غير شرعي، هو مجرد كلام معسول وساذج، ولا يقصد منه سوى الاستهلاك الإعلامي.
قبل كيري بسنوات، كان الرئيس السابق بوش الابن ينتقد الاستيطان الإسرائيلي، ويطالب بتجميده، وحتى ذلك التصريح إلى الآن، يمكن لأي شخص متابع لأحوال الاستيطان على الأرض، أن يستدرك مباشرةً وبالعين المجردة، تضاعفه بمتوالية هندسية.
عن أي كذبة يلوّح بها كيري، وهو الذي لم يقل لنا كيف يمكن للاستيطان أن يتوقف، فكبير الرجل اتصل فقط بمحاولة تقريب وجهات النظر وتدفئة العلاقة بين الطرفين، لكن لا جديد يذكر قدمه، إلا إذا كان أفشى بشيء سري لهما، كما هي أحوال المفاوضات الجارية.
في كل الأحوال، يراهن الطرف الإسرائيلي على اختلال موازين القوى، التي تمكنه من استكمال نشاطاته الاستيطانية، وفي ذات الوقت تحديد موقفه من المفاوضات وعملية السلام، ثم إنه يدرك بأن غريمه الفلسطيني لا يستند على أي ظهر، خصوصاً مع حالة الانحسار التي تعيشها الأمة العربية.
الطرف الفلسطيني منقسم إلى نصفين، ولا يمكنه صناعة السلام أو حتى حماية حقوقه الوطنية المشروعة، ذلك أن الاستيطان يسير وعلى عينك يا تاجر، دون أن نلاحظ موقفاً فلسطينياً قوياً، لا من جماعة السلطة ولا من جماعة غزة، ويبدو أن هذا الموقف الضعيف يُمكِّنُ إسرائيل من التوغل الاستيطاني أكثر فأكثر.
وربما لأن كيري يدرك أن الضغط على إسرائيل غير مجدٍّ، خصوصاً حين يتصل الأمر بمساعي الأخيرة لتأمين الاستيطان بغية وضع أسوار من الحماية للعمق الإسرائيلي، فإن الأميركان قد لا يتمكنوا من جمع الطرفين في مفاوضات من شأنها أن تصيغ حلاً نهائياً
القصد من ذلك، أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال، جمع الطرفين وطرح موضوعات الحل النهائي والاتفاق عليها، وإذا ما تم ذلك فإن المفاوضات حتماً ستفشل، مع العلم أنها تسير على عكازين الآن بسبب الأعمال الاستيطانية الإسرائيلية.
هذا يعني أنه قد يكون في جعبة كيري اتفاق مرحلي طويل المدى، يشبه إلى حد كبير اتفاق أوسلو الذي سمح بولادة السلطة الفلسطينية كحكم ذاتي، دون أن يضمن لها التطور إلى الدولة، أي قد تطرح المفاوضات إن استمرت وفي أقصاها، سقفاً يحدد دولة فلسطينية مؤقتة بإمكانيات وحدود مؤقتة، وعلى أن تكون هذه الأخيرة مستندةً حسب الإسرائيليين إلى جدار الفصل.
مع ذلك يبدو هذا الاتفاق صعب جداً، لأن الممارسات الحالية الإسرائيلية لا تخدم عملية السلام ولا أي أجندة تفاوضية، في حين تحاول إسرائيل بقضها وقضيضها، تهويد القدس الشرقية واعتبار كل القدس عاصمةً أبدية لإسرائيل.
على كل حال، يمكن القول: إن كيري جاء لإغراقنا بالوعود، وإسكاتنا أو دفعنا لتأجيل غضبنا، بالإعلان عن تقديم مساعدات مالية بقيمة 75 مليون دولار، تستهدف البنية التحتية للضفة الغربية، وعلى الأرجح أن نسمع قريباً عن أموال خارجية تقدم للسلطة، أسوةً بالمال الأميركي الداعم لاستكمال المفاوضات.
في هذا الإطار، وعلى اعتبار أن نتنياهو رمى كل أوراقه وكشفها على الطاولة، فلا ينبغي على الطرف الفلسطيني استكمال المفاوضات، إنما عليه تقديم موقف شارح ومدعوم بموقف كيري من عدم شرعية الاستيطان، وبالتالي يفضل تجميد المفاوضات على خيار مواصلتها والخروج منها لاحقاً بخفي حنين.
ولكم أن تتخيلوا حكومة إسرائيلية متطرفة، من المحتمل أن ينضم إليها أفيغدور ليبرمان، الذي تمت تبرئته بتهم فساد، فعلى الأرجح أنها لن تضيف سوى الزيت على نار المفاوضات، ما يعني أن ثمن الانسحاب أو تجميد المفاوضات، خيار أحلى من مرارتها ومن تداعياتها الكارثية اللاحقة.
أخيراً، أقول للمسؤول الفلسطيني وعلى رأسهم الرئيس أبو مازن: عليك أن تجمد المفاوضات وتعود إلى ساحة النضال الدبلوماسي الخارجي، طالما وأن إسرائيل تمارس الفعل الاستيطاني الفاضح وسط انتقادات دولية تعتبره غير شرعي. إذاً مارس فعلك وادعو إلى نضال سلمي داخلي مشروع، من شأنه أن يبقي حرارةً في نبض القضية الفلسطينية..