تتمتع منطقة الشرق الأوسط باهتمام بالغ لدى القوى الغربية، وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية التي لديها مصالح استراتيجية هناك، وتربطها علاقات قوية مع العديد من دول المنطقة، لكن لا أحد ينكر أن الإدارة الأميركية تتعامل مع الملفات
بما ينسجم ومصالحها وأولوياتها.
قبل عدة أيام كان وزير الخارجية الأميركي جون كيري في جولة لعدد من الدول العربية، زار أثناءها رام الله والقدس الغربية، والتقى بالرئيس محمود عباس ومن ثم برئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وأعلن من هناك أن الاستيطان غير شرعي.
كيري طار بعدها إلى عمان، وإلى جانب نظيره الأردني صرّح عن قرب تحديد موعد عقد جنيف 2، رابطاً ذلك بما سيتمخض عن اجتماع المعارضة السورية الذي عقد في تركيا وتناول فضلاً عن موضوع المشاركة من العدم في المؤتمر الدولي، تشكيل حكومة كفاءات تدير ما يسمى المناطق السورية المحررة.
بعد ذلك وفجأة سمعنا عن اجتماع بين مجموعة 5+1 وإيران، حول إمكانية تخفيف العقوبات المفروضة على طهران، مقابل الحد من نشاطاتها النووية، وكان المجتمعون قريبين من التوصل إلى اتفاق وشيك، لولا ما قيل عن أن تدخلاً فرنسياً في الأوقات الأخيرة عرقل إنجاح الاتفاق.
المغزى من شرح هذا التفصيل في جولة كيري، هو أن الإدارة الأميركية لديها أولويات تخص مصالحها وأجندتها في المنطقة، فحين كان ملف الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي مهماً بالنسبة لها، دخلت ملفات أخرى أكثر أهمية وحيوية بالنسبة للأميركيين، من ضمنها الملف النووي الإيراني وأزمة الصراع السوري.
قبل الملف النووي وأهميته الفائقة، كان الملف السوري يطغى على ملفات كثيرة، خصوصاً حين تعلق الأمر بالسلاح الكيماوي السوري، ذلك أن الولايات المتحدة ترغب بقوة في تأمين حليفها الإسرائيلي، وفي ذات الوقت سحب القوة من تحت البساط السوري ووضعه في بؤرة صراع واقتتال داخلي يطحنه.
أكثر ما يقلق الأميركيين الآن، هو الملف النووي الإيراني، ويبدو أنهم يسعون للعب على حبلين، الأول محاولة إما الاتفاق مع طهران ويشمل ذلك تخفيف العقوبات عليها وتأكيد ضمانات تتصل بعدم سعيها امتلاك قنبلة نووية، أو تغليظ العقوبات وخنق إيران أكثر وأكثر لمنعها من امتلاك هذا السلاح.
الحكومة الإيرانية كانت قد قدمت مؤشرات تستهدف عدم ممانعتها من التقارب مع الغرب، الأمر الذي يعني أنها فعلاً مضغوطة بسبب العقوبات الاقتصادية القوية المفروضة عليها قبل أكثر من عام، من جانب الولايات المتحدة وأوروبا الغربية.
مع ذلك، فإن هذه المؤشرات لم تحقق اتفاقاً يخفف العقوبات على طهران، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالموقف الأميركي، والحديث هنا عن موقف مرتبك من طريقة التعامل مع الملف النووي الإيراني، ذلك أن هناك خلاف بائن بين أركان الإدارة الأميركية والكونجرس في كيفية التعامل مع هذا الملف.
ثمة من يحمّل الأميركان مسؤولية عدم الاتفاق مع طهران، ويعتبر هذا الرأي أن الموقف الفرنسي لا يمكنه أن يرفض ما يقبله الأميركي، اللهم أن هذا الأخير ربما وضع الفرنسيين في الواجهة، حتى يمكنه العودة إلى دائرة القرار في واشنطن، والاتفاق على صياغة قرار حاسم، إما الاتفاق أو عدم ذلك.
نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، دخل على خط هذه المفاوضات، وأطلق سهامه وتحذيراته من أن مثل هذا الاتفاق سيكون كارثياً على العالم، على اعتبار أن إيران لن تتوقف عن بناء سلاح نووي فاعل ورادع، وعلى الفور بدأت الحكومة الإسرائيلية تفكر جدياً كيف ترسل طاقمها لحشد حملة في أميركا، هدفها عدم الاتفاق مع طهران.
على الأرجح أن الأميركان استمعوا إلى صوت نتنياهو، وإلى أصوات المعارضين في اللوبي الصهيوني وفي مختلف دوائر القرار الأميركي، الأمر الذي جعل كيري يبذل جهداً إضافياً لتزكية موقفه بشأن قبول اتفاق لا يضمن لإيران الحوزة على سلاح نووي.
إذن هناك ارتباك واضح لدى الأميركيين في التعامل مع الملف النووي الإيراني، لكن وفي كل الأحوال من المستبعد جداً أن تسعى الإدارة الأميركية إلى الموافقة على المطلب الإسرائيلي بضرورة شن ضربة عسكرية إلى مواقع ومنشآت نووية في إيران.
إن الولايات المتحدة تدرك مدى أهمية الحل السياسي على حساب توجيه أي ضربة عسكرية لطهران، لكن الخلاف هو كيف يكون الحل السياسي، وهذا الموقف شبيه إلى حد كبير في طريقة التعامل الأميركي مع الملف السوري.
تريد الولايات المتحدة الأميركية بالوسائل الدبلوماسية والسياسية أن تبقى إيران عند مستوى استخدام اليورانيوم في أغراض سلمية، ويعتقد شخص مثل أوباما وكيري، أن اتفاقاً مع طهران، قد يؤدي بحال من الأحوال إلى إنجاح المسعى الأميركي.
لكن مثلما يوجد جناح حمائمي في صناعة القرار الأميركي، هناك أيضاً جناح صقوري، وهذا الأخير يتفق مع الإسرائيليين على أن العقوبات القاسية إلى جانب توجيه ضربة قوية إلى المنشآت النووية الإيرانية، وحدها تمنع طهران من امتلاك القنبلة النووية.
على كل حال، سيبقى المسعى السلمي هو عنوان سياسة الإدارة الأميركية بخصوص الملف النووي الإيراني، وهذا ينطبق أيضاً على الملف السوري، الذي ارتاحت الولايات المتحدة حين تقدم الروس بمبادرة لنزع السلاح الكيماوي السوري.
لقد حصلت الولايات المتحدة على ما تريده من سورية تقريباً، وهو التأكد من خضوعها إلى قرار صادر عن مجلس الأمن الدولي، يلزمها بتدمير سلاحها الكيماوي، والنظام السوري يقدم كافة التسهيلات والدعم الكاملين لإنجاح مهمة المفتشين الدوليين.
لكن لم تحدد الولايات المتحدة ما الذي تريده من الملف السوري بالضبط، ذلك أنها اتفقت مع روسيا على ضرورة عقد جنيف 2، وسعت في معظم الوقت للضغط على المعارضة من أجل إشراكها في هذا المؤتمر الدولي، وفي اجتماع أصدقاء سورية الذي عقد في لندن قبل أكثر من شهر، اشترطت إلى جانب المجتمعين تشكيل حكومة انتقالية سورية يغيب عنها الرئيس بشار الأسد.
والآن نسمع أن الولايات المتحدة ترحب بما تمخض عن اجتماع الائتلاف السوري المعارض الذي عقد في تركيا منذ أسبوع، وموافقته على المشاركة في جنيف 2، لكنها أي الولايات المتحدة، لم تقل حرفياً أي شي له علاقة بموقفها من الحكومة الانتقالية المستقبلية التي تريدها المعارضة السورية.
نعم هناك ارتباك أميركي وموقف غير واضح تجاه الملفين الإيراني والسوري، وعلى الأرجح أنه إما تعبير عن الخلافات الداخلية في كيفية التعامل مع هذين الملفين، أو أنه انعكاس لخلافات دولية وإقليمية، أو أن الولايات المتحدة قررت استحداث سياسة جديدة تقوم على التعويم وعدم اليقين في مرحلة يسودها التوتر.