دأب وزير الحرب الإسرائيلي موشي يعالون على انتقاد وزير الخارجية الأميركي جون كيري في خططه المتعلقة بالتسوية السلمية بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، ولم يكن كيري هو الوحيد المستهدف من لسان يعالون، إنما الرئيس محمود عباس مسّه التطاول والانتقاد أيضاً.
يعالون قال حديثاً إن الفلسطينيين لن يحصلوا على دولة مستقلة وإنما سيبقون في إطار الحكم الذاتي لا أكثر، وأن الرئيس عباس ليس شريكاً في عملية "السلام" لأنه لم يوافق على الاعتراف بـ"يهودية الدولة" ولم يتنازل عن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين.
اعترف يعالون بأنه لا يبحث عن حل مع الفلسطينيين، مقتنعاً بسياسة "إسرائيل" في إدارة الصراع، وموقف وزير الحرب هذا يتناغم تماماً مع موقف الحكومة الإسرائيلية التي ظلت تستخدم من استئناف المفاوضات غطاءً لتكريس المخططات الصهيونية.
تزامنت هذه التصريحات، مع توجهات كيري لإعداد خطة تستهدف استئناف المفاوضات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، مقابل امتناع الطرف الأول عن الذهاب إلى مجلس الأمن الدولي لتقديم الخطة الفلسطينية الهادفة إلى وضع جدول زمني يؤدي في النهاية إلى قيام الدولة على أراضي العام 1967.
يريد يعالون أن يؤكد لكيري بأن خطة الأخير الجاري بلورتها غير واقعية ولا تصب في خدمة المصالح الإسرائيلية، على أساس أن حكومة الاحتلال لن تقبل بوجود دولة فلسطينية ذات سيادة وصاحبة سلاح وأجواء، بالرغم من أن وزير الخارجية الأميركي يصيغ الخطة حتى يمنع الفلسطينيين من أن يحققوا أي اختراق دبلوماسي في مجلس الأمن.
موقف يعالون من قيام الدولة الفلسطينية المستقلة لا يتبناه هو فقط، بل إن الحكومة الإسرائيلية وفي مقدمتها نتنياهو يتبنون هذا الموقف، وعلى الأرجح أن يعالون يمثل لسان حالهم، كما هو حال وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان، الذي يعبّر عن حقيقة عقيدة المؤسسة الرسمية الإسرائيلية.
يعالون الذي تجنب هذه المرة انتقاد كيري على خطته الجديدة، نسف عملياً هذه الخطة قبل الإعلان الرسمي عنها، وكأنه يريد القول لكيري إن الأخير لا يفهم طبيعة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي وما الذي يدور في بال العقلية الإسرائيلية الرسمية.
ثم إن خطة كيري نفسها تعبّر عن تجربة مستنسخة من خطته السابقة لاستئناف المفاوضات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، التي وضعتهما أمام اجتماعات ولقاءات لم تصل في نهاياتها إلى أي إنجاز متقدم في عملية "السلام"، اللهم زيادة وتيرة الاستيطان واستكمال تهويد الضفة الغربية.
خطة كيري في حقيقتها تعني اللعب بالوقت وهي ليست بعيدة عن مفهوم "إسرائيل" وأقوال يعالون حول إدارة الصراع، وعلى الأرجح أننا سنكون أمام مساومات سياسية مقابل التنازل عن بعض الاشتراطات الفلسطينية، كأن يتم ربط موضوع إعمار قطاع غزة أيضاً بتأجيل توجه الفلسطينيين إلى مجلس الأمن.
بلورة خطة أميركية جديدة تعني أن كيري يريد إدارة الصراع وابتزاز الفلسطينيين من أجل وقف تحركهم نحو مجلس الأمن، مع العلم أن وزير الخارجية الأميركي يدرك أن "إسرائيل" لن تعطي الفلسطينيين حقهم في إقامة دولتهم، وهي تفعل كل ما يعيق ويخالف إقامة هذه الدولة.
في كل الأحوال فإن "إسرائيل" وحدها الرابح، سواء رفض الفلسطينيون خطة كيري أو قبلوها، لأن رفضهم لها وتوجههم إلى مجلس الأمن سيؤدي إلى اعتراض الولايات المتحدة على مشروعهم بالفيتو، وإذا قبلوا خطة كيري فإنهم سيدخلون في مفاوضات لا تسمن ولا تغني من جوع.
مع ذلك فإن تكلفة الضرر على الفلسطينيين هي أقل بكثير في حال مضوا في مواصلة دربهم الدبلوماسي في المحافل الدولية، حتى لو كشرت الولايات المتحدة عن أنيابها ولوحت بالفيتو، فهذا لا يعني آخر الدرب الفلسطيني، إنما يؤكد على عدالة القضية الفلسطينية التي تحتاج إلى بذل الجهد والوقت لإحراج "إسرائيل" والدول الحليفة لها.
إذا عرض كيري خطته على الفلسطينيين ورفضوها، فهذا ينم عن موقف مسؤول وملتزم ومبني على فهم وإدراك لمتطلبات اللحظة، أما إذا قبلوا بهذه الخطة فإنهم بذلك يكونون قد وافقوا على فعل فاضح من شأنه أن ينتهك كرامتهم ويمرغ رأسهم في التراب.
كيري لن يقدم هدية للفلسطينيين، وخطته هذه تخدم "إسرائيل" كما يخدمها الرئيس باراك أوباما قولاً وفعلاً، وهو يكمل يعالون في طريقة تلاعبهم بالقضية الفلسطينية، وإلا لما حذرت الولايات المتحدة الأميركية الفلسطينيين من خطورة التوجه إلى مجلس الأمن.
لو كانت واشنطن تؤمن بعدالة القضية الفلسطينية لاكتفت على الأقل بإعلان الحياد، لكن انحيازها لـ"إسرائيل" معلوم وواضح للجميع، ثم إن الولايات المتحدة هي الأقدر على ممارسة الابتزاز على دول كثيرة غربية وغير غربية، حتى تمنع الفلسطينيين من تحقيق مكاسب سياسية على الساحة الدولية.
الأجدر بالفلسطينيين أن لا ينتبهوا لخطة كيري، وأن يواصلوا سعيهم لمأزقة "إسرائيل" في المحافل الدولية، ضمن برنامج يستهدف تحصين الوضع الداخلي وتفويت الفرصة على المتآمرين على القضية الفلسطينية بالمضي قدماً في تنفيذ وتكريس المصالحة الداخلية.
النضال الدبلوماسي في المحافل الدولية حقق مكاسب للقضية الفلسطينية، منها منح فلسطين صفة دولة مراقب في الأمم المتحدة، وإعلان السويد نيتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية، فضلاً عن التصويت الرمزي في البرلمان البريطاني لصالح الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وموقف فرنسا المؤكد للاعتراف بقيام الدولة في حينه، حسب تعبيرات وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس.
هذا يعني أن مواصلة النضال الدبلوماسي مفيد ويحقق نتائج إيجابية وجيدة من شأنها أن تخدم المصالح الفلسطينية في المستقبل المنظور، الأمر الذي يؤكد معه ضرورة الانتباه للوقت واستثماره لجهة المداومة على التوجه الفلسطيني إلى مجلس الأمن وتقديم مشروعهم الدولاني، مرة ومرتين وثلاث وألف إن لزم الأمر.
أخيراً، يمكن القول إن خطة كيري تعبّر عن إفلاس الولايات المتحدة التي تمارس غطرستها السياسية بأسلوب العضلات وفرض القوة، ولا يهم واشنطن إلا إرضاء "إسرائيل"، حتى لو تطاول يعالون أو أمثاله على وزير خارجية أقوى دولة في العالم.