التحرك الدبلوماسي الفلسطيني على الساحة الدولية في هذه الأيام، لم يمنع الاحتلال الإسرائيلي من مواصلة اعتداءاته اليومية التي لم تتوقف أصلاً والتي استهدفت في الآونة الأخيرة تهويد منطقة جنوب القدس عبر مشروع القدس 2020.
المشروع الذي أفصحت عنه الحكومة الإسرائيلية يتعلق بفرض طوق استيطاني يبتلع مع الوقت الأراضي الفلسطينية لجهة تشييد 58 ألف وحدة استيطانية، حيث تم مؤخراً الكشف عن نية الحكومة الإسرائيلية بناء مستوطنة ضخمة جنوب القدس، سبقها المصادقة على بناء 2561 وحدة في مستوطنة "جفعات همتوس".
هذا النشاط الاستيطاني المكثف تزامن بالضبط مع التوجه الفلسطيني الرسمي إلى مجلس الأمن الدولي وخطاب الرئيس عباس في الأمم المتحدة لتحديد سقف زمني لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 بما لا يتجاوز ثلاثة أعوام.
الرسالة الإسرائيلية المتعلقة بالاستيطان، تهدف في الأساس إلى اعتبار هذا النشاط التزاماً إسرائيلياً لن تحيد عنه، وفي كل مرة يأتي أي مسؤول أميركي إلى منطقة الشرق الأوسط أو حتى يغادر الوفد الفلسطيني باتجاه الأمم المتحدة، كانت "إسرائيل" تكثف من استيطانها للضفة.
"إسرائيل" تفعل ذلك لأنها تريد أن تقول للعالم إن هذه سياستها وإن على الأخير أن يتقبل هذا الفعل الاستيطاني بترسيمه دولياً أو على الأقل غض الطرف عنه، كونه جزءًا من العقيدة الصهيونية، وقد نجحت "إسرائيل" في ذلك وتمكنت حقيقةً من مواصلة عدوانها الاستيطاني بدون رقيب أو حسيب.
المصادقة على بناء 2561 وحدة استيطانية على أراضي بيت صفافا تمت بينما كان يجتمع الرئيس الأميركي باراك أوباما برئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، على هامش انعقاد الدورة التاسعة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة.
مع ذلك اكتفت الولايات المتحدة باجترار مواقفها المفلسة إزاء الاستيطان، والتلويح بالخطر الذي يلحق الأذى بسمعة "إسرائيل" على المستوى الدولي من جراء هذا الفعل، وهذه التصريحات الأميركية مكرورة وجاءت على أكثر من لسان بما فيها أوباما نفسه.
لو كان الأميركان صادقون في موقفهم من "إسرائيل" وأنهم الوسيط النزيه والمحايد بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، لكانوا استمعوا جيداً إلى خطاب الرئيس عباس في الأمم المتحدة، وتفهموا حاجة الفلسطينيين لمفاوضات مبنية على جدول زمني تؤدي في النهاية إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
الذي فعلته واشنطن هو أنها وافقت ضمنياً على مواصلة "إسرائيل" للتوسع الاستيطاني في القدس المحتلة، ونددت بخطاب الرئيس عباس، الذي اعتبرته استفزازياً حسب جنيفر بساكي المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية.
هذا الموقف الأميركي يعكس رغبة واشنطن في احتكار وإدارة ملف الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، أو ربطه بطرفي الصراع فقط، دون تدويل القضية الفلسطينية وتوسيع هامش المناورة والرهان على مسرح الأمم المتحدة ومختلف الأجهزة والمجالس القانونية والدولية.
أضف إلى ذلك، أن أوباما جدد أثناء لقائه بنتنياهو، التزام واشنطن بأمن "إسرائيل" وأن الأول فخور بهذه العلاقة، وما الخلاف الكلاسيكي بين الطرفين إلا مجرد جعجعة بلا طحين، وكلام معسول لا يسمن ولا يغني من جوع، أنتج خصيصاً للتسويق الإعلامي.
ويبدو أن الفعل الفلسطيني على صحته وصواب تحركه، سيواجه جداراً صلباً مصدره كل من واشنطن وتل أبيب، خصوصاً وأن الأولى لن تمرر مشروع قرار فلسطيني مقدم إلى مجلس الأمن، يدعو إلى إنهاء الاحتلال الصهيوني على حدود 67 وإقامة دولة فلسطينية.
ثم إن نتنياهو هاجم الرئيس عباس بشدة من على منبر الأمم المتحدة، ودعا إلى تسوية تاريخية دون أن يحدد معالمها، وفقط اكتفى بالحديث عن "سلام" حقيقي ولم يتطرق إلى حيثيات وترتيبات الوصول إلى هذا "السلام"، ومن ثم تغزّل بجيشه واعتبره من أكثر جيوش العالم "براءة وصاحب أخلاق عالية".
نتنياهو رفض صراحة إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود العام 67، متخذاً من قطاع غزة ذريعة لدعم موقفه من عدم الانسحاب الإسرائيلي من تلك الحدود المحتلة، على أساس أن إعادة الانتشار من غزة في أيلول 2005، أدت إلى إطلاق القذائف الفلسطينية على "إسرائيل".
الحقيقة أن كلاً من خطابي الرئيس عباس ونتنياهو يمثلان موقفين متضادين لا قواسم مشتركة بينهما، لا في الحدود الدنيا ولا في الحدود العليا، الأمر الذي يعني استمرار وتوسع الاشتباك الذي قد يأخذ أبعاداً كثيرة، لا تتصل فقط في الجانب النضالي الدبلوماسي الفلسطيني، بقدر ما أن هناك جولة مقبلة من الصراع تتمثل في عدوان إسرائيلي متنوع.
هذا الأمر يتطلب وحدة فلسطينية حقيقية لمواجهة كافة المخططات الإسرائيلية، لأن أي وحدة فلسطينية لا تتجسد على أرض الواقع كما هو الحال الآن، تؤثر كثيراً وتربك المشهد الفلسطيني عموماً، خصوصاً وأننا أمام مرحلة مهمة وحساسة وتتطلب مستوى عالياً من المسؤولية الوطنية.
أي تحرك فلسطيني في المحافل الدولية بدون وحدة الحال، لن يحقق النتائج المرجوة وبالعكس سيضعف القضية الفلسطينية طالما أن أهلها منقسمون على أنفسهم في السياسة وفي الجغرافيا والديمغرافيا... إلخ، وطالما أنهم منشغلون في انقسامهم أكثر من انشغالهم في مقارعة الاحتلال.
وإذا كانت هناك استراتيجية من 6 ركائز لتدويل القضية الفلسطينية حسب تصريحات صادرة عن الدكتور صائب عريقات، فإنه ينبغي أن تكون هناك استراتيجية لإزالة الانقسام وحسم الوضع الداخلي الفلسطيني إما بالتوافق أو عبر صناديق الاقتراع.
المعنى أن استهلاك المزيد من الوقت في معالجة الانقسام بدون نية صافية، سيؤدي إلى إضعاف أو حتى إجهاض المشروع الفلسطيني الدبلوماسي، وذلك يتطلب وضع سقف زمني لتمكين المصالحة الداخلية والتنعم بنتائجها فعلاً لا قولاً، أو الذهاب إلى انتخابات نزيهة وشفافة يلتزم ويعترف الجميع بنتائجها.
وإذا كان من ضرورة لمعالجة الوضع الفلسطيني القائم، فإن الحل الأمثل يتمثل في الشعب الفلسطيني، الذي عليه أن يلتقط زمام المبادرة لجهة فرض المصالحة بالود أو القوة على أطراف الانقسام، أو المطالبة بإجراء انتخابات تحدد من هي الجهة المؤهلة لقيادة الحالة الفلسطينية.
الوقت يمضي كالسيف علينا، و"إسرائيل" تشتغل على أساس أنه لن يكون هناك دولة فلسطينية، وماكينة الاستيطان تعمل بكامل قوتها، ودون استعادة الوحدة الفلسطينية الحقيقية، فإن "إسرائيل" ستمضي في مشروعها ولن تجد هناك من يعيقها ويقف في طريقها.