إذا كان هذا العدوان الصهيوني الغاشم قد حوّل قطاع غزة إلى مدينة أشباح واعتبارها منطقة منكوبة كما أطلق عليها الرئيس محمود عباس، فإن غزة تعاني منذ فترة طويلة، من نكبات وكوارث اصطناعية متجددة بفعل الاعتداءات السابقة وآلات الدمار المنتشرة في كل مكان.
القطاع الآن ليس منكوباً فحسب، وإنما يشهد كارثة إنسانية حقيقية وإبادة جماعية، للبشر والشجر والحجر، حتى أن غزة في ظل هذا العدوان، لم تعد آمنة للعيش الآدمي، خصوصاً مع تدمير آلاف المنازل بين كلي وجزئي، واستهداف البنية التحتية ومختلف أنواع الخدمات التي لم تعد موجودة الآن.
من الصعب جداً توصيف ما يجري من إبادة في قطاع غزة، فعدا ارتفاع فاتورة الشهداء والجرحى بسبب هذا العدوان، هناك أحياء بكاملها دمرت وسويت بالتراب، والهدف الأول والأخير هو معاقبة الشعب الفلسطيني على حقه في حياة آمنة.
الاحتلال الصهيوني الذي استنفد جزءاً من ذخيرته العسكرية، أعاد التزود بأخرى من مخزون محلي للأسلحة الأميركية، وضع داخل "إسرائيل" حتى تستخدمه الولايات المتحدة في حالات الطوارئ، وهذا تأكيد على أن آلاف الأطنان من القنابل والقذائف ألقيت على غزة في عدوان متواصل غير معلوم متى وكيف سيتوقف.
أضف إلى ذلك، أن الاحتلال قرر استدعاء 16 ألف جندي من الاحتياط، يضيفهم إلى آلاف مؤلفة من جنوده على حدود القطاع، ليتجاوز عدد الذين يقتلون الأطفال والنساء ويدمرون غزة 86 ألف جندي، يواصلون قصفهم ليلاً ونهاراً.
القطاع من شماله إلى جنوبه، ومن غربه إلى شرقه يتعرض يومياً لمختلف أنواع القصف والدمار الصهيوني، والحديث هنا عن قصف عشوائي يستهدف منازل المدنيين العزّل، فيما تزداد في كل يوم قائمة المجازر التي ترتكب بحق الفلسطينيين والتي يروح ضحيتها عائلات كاملة.
كل ذلك يفعله الاحتلال الصهيوني، لأنه عجز بحق عن تحقيق أهدافه من وراء هذا العدوان، ولأن حلفاءه الأميركان لم يتمكنوا إلى اللحظة من إيجاد هدنة تلبي الشروط الإسرائيلية، مع العلم أن العدوان الصهيوني جاء بمباركة وموافقة أميركية لإضعاف المقاومة الفلسطينية على الأرض، واستثمار هذا التفوق الصهيوني في شراء تهدئة مجانية.
الاحتلال لم يكن يتوقع صمود المقاومة إلى يومنا هذا، ومع أنه أطلق عملية برية لاستعجال تحقيق مكاسب على الأرض، تساعده في الحصول على ثمن سياسي، إلا أنه لم يفلح في الاثنتين، فلا إنجاز عسكرياً حققه ولا هو الإنجاز السياسي.
ثمة حالة هستيرية تصيب مختلف أركان القيادة الإسرائيلية، ويجري نقاش مطول على مدار اليوم، فيما إذا كان ينبغي على الاحتلال وقف عدوانه من طرفه وبشكل أحادي الجانب، أم الاستمرار في هذا العدوان مع توسيعه باستكمال القصف وضرب المواطنين.
نتنياهو وطاقمه الوزاري أيدوا توسيع العدوان، لكن ماذا يعني ذلك؟ أولاً: يريد رئيس حكومة الاحتلال الحصول على مكاسب يتغنى بها ويحولها إلى انتصار على المقاومة، وطالما أنه لم يجد هذا الانتصار بعد، فإنه يصب جام غضبه على الشعب الفلسطيني.
ثانياً: ليس صحيحاً أن الاحتلال يتجنب المدنيين العزّل، وهذا النقد كان وجهه وزير الخارجية الأميركي جون كيري في حديث مسرّب، سخر خلاله من وصف "العملية الإسرائيلية على غزة بأنها بالغة الدقة".
ثم إن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، الذي لم يجد أي مبرر للاستهداف الصهيوني لأكثر من مدرسة في غزة، قال إن "الأونروا" زودت الاحتلال بإحداثيات إحدى مدارسها في شمال القطاع لأكثر من 17 مرة، ومع ذلك قصف الاحتلال تلك المدرسة وأوقع عشرات الشهداء وعدداً كبيراً من الجرحى.
ثالثاً: يعوض نتنياهو عن فشله في تحقيق أهداف العدوان بقتل المدنيين الفلسطينيين، إرضاءً لشهوات اليمين المتطرف، كما هو إرضاء للعنصرية المتفشية بين الاسرائيليين، خصوصاً وأن أكثر من ثلثي الرأي العام الإسرائيلي مع الاستمرار في العدوان على غزة.
ربما أكثر من 80 % من الشهداء هم مدنيون عزّل، في حين يتجاوز عدد هؤلاء من الأطفال 300 شهيد، وأزيد من 160 شهيدة من النساء، ولا يوجد أي مبرر للاحتلال باستثناء أنه وضع جميع سكان قطاع غزة في مرمى قصفه.
رابعاً: يولي نتنياهو لمستقبله السياسي أولويةً قصوى، وهذا يشكل دافعاً له لمواصلة عدوانه على القطاع، لأنه إذا تراجع عن القصف فإنه سيواجه سقوطاً حتمياً لحكومته، لذلك يفضل خيار توسيع العدوان على أمل تحقيق مكاسب في الأيام القليلة المقبلة.
عدا أن توسيع العدوان بنظر نتنياهو يتزامن مع إبقاء جنوده بجانب الحدود الشمالية الشرقية والجنوبية الشرقية لقطاع غزة، والتوسع يعني زيادة حرق القطاع وحراثته بالقصف المستمر، أما الحديث عن توسع بري إلى عمق غزة فأمره مستبعد في ضوء الخسائر اليومية التي يتكبدها الجنود الصهاينة.
ليس مبالغاً القول إن غزة لم تعد آمنة بالمطلق لأي كائن كان، فالمواطن المتحرك في سيارته هو هدف بالنسبة للاحتلال، كما هي حال المدارس والمستشفيات ومحطة توليد الكهرباء والمساجد التي قصف العديد منها، باختصار هذه هولوكوست.
والاحتلال الصهيوني يمارس مجازره وحرب إبادة ممنهجة ضد الشعب الفلسطيني.
هذا الفعل الإجرامي يتطلب سريعاً، فضح الاحتلال في المحافل الدولية، ما يؤكد ضرورة ملاحقة "إسرائيل" ومحاسبتها على الجرائم التي ترتكبها، إلى جانب أن انتهاء العدوان الصهيوني لا يعني استراحة الشعب الفلسطيني عن مقارعة الاحتلال.
على الفلسطينيين ممارسة كل أنواع النضال بما فيه الدبلوماسي والسلمي ضد الاحتلال، خصوصاً وأن الوقت في صالحنا، والشعب الفلسطيني دفع ثمن صموده من دمه وأغلى ما يملك للمحافظة على حقوقه ولنصرة المقاومة، فحذارِ المتاجرة بالدم الفلسطيني.