اعتداءات كثيرة طالت الفلسطينيين في قطاع غزة، ليس آخرها بطبيعة الحال هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم تحت اسم "الجرف الصامد" الذي يعد من أصعب العدوانات التي شنها الاحتلال على قطاع غزة منذ قيام الدولة الصهيونية في أيار 1948.
باعتراف العدو الإسرائيلي، يتفاخرون أنهم استخدموا أكثر من 3000 طن من الصواريخ منذ إطلاق عدوانهم في السابع من الشهر الجاري إلى هذه اللحظة، في حين قصفوا مدينة الشجاعية وحدها بما لا يقل عن 120 طناً من الصواريخ.
المستوى السياسي وكذا العسكري في "إسرائيل"، لم يتوقعا هذا التطور الهائل في وسائل قتال المقاومة وفي قدرتها على مواجهة ترسانة قوية وهائلة بحجم الذي يمتلكه الاحتلال، الأمر الذي دفع هذين المستويين إلى تجنب التورط في توسيع عدوان بري يستهدف عمق القطاع.
الغرض الأساس من عدوان الاحتلال عدا "التشييك" على مخزون المقاومة وجاهزيتها، هو إضعافها بالطريقة التي لا تشكل تهديداً خطيراً على الأمن الإسرائيلي، ويبدو أن هذه الحسبة جاءت خصوصاً بعد العدوان الأخير "عامود السحاب" الذي وقع في العام 2012.
ما يثير الحماسة في هذا المقام، أن المقاومة لم تعش طيلة سنوات مضت حالة من الاسترخاء، بل كانت تعمل كل الوقت لتقوية شوكتها واستعداداً لجولة جديدة من العدوان الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي، وهذا كان واضحاً في جاهزية هذه المقاومة خلال العدوان الحالي.
عدوان "الرصاص المصبوب" الذي شنه الاحتلال أواخر العام 2008، توصل في نهايته المستوى العسكري إلى قناعة بأن حماس هي "نمر من ورق"، انطلاقاً من اعتبارين، الأول اتصل بتوسع الاحتلال في عدوانه البري إلى العمق الاستراتيجي لغزة، وثانياً ما يقول إنه تواضع في الخسائر البشرية التي مُني بها.
بين "الرصاص المصبوب" و"الجرف الصامد" هناك تطور لافت ومبهر لدى المقاومة الفلسطينية، خصوصاً وأن أسلوب المقاومة لم يعد يعتمد على رد الفعل في الميدان، بل غيرت من تكتيكاتها ومناوراتها، واعتمدت على الفعل المقاوم ليس جوياً فحسب، وإنما برياً وبحرياً.
القصد من ذلك، أن المقاومة حسنت ونوعت طرق قتالها، وتمكنت بفعل رؤيتها الاستراتيجية من إلحاق خسائر فادحة بالعدو الصهيوني، وهي خسائر وفواتير باهظة أربكت المستويين السياسي والعسكري، وعلى الأرجح أن المستوى الأول سيدفع ثمن عدم تحقيقه الأهداف التي وضعها.
لا يتعلق الموضوع بالتزود التسليحي فقط، إنما بالنشاط الذي بذلته المقاومة في توسيع شبكة أنفاق تصل إلى معقل العدو نفسه، حتى أن العديد من المراقبين يعتقدون أن ثمة حياة تحت الأرض، وهذا ما أكسب المقاومة زخماً وقدرة على المناورة في الميدان.
وحقيقةً أثبتت المقاومة في هذا العدوان أنها نمر حقيقي وليست من ورق، وربما اكتشف الاحتلال ذلك في عدوانه العام 2012، حين وصلت قذائف المقاومة إلى مناطق مهمة وفي العمق الإسرائيلي، وبالمنطق يمكن فهم أن تطوير القذائف يعني بالتأكيد تطور وسائل المقاومة المختلفة.
الاحتلال الصهيوني في عدوانه هذا، استهدف بشكل مباشر المدنيين ووضعهم على قائمة أهدافه، حتى يؤلب الشارع على المقاومة ويدمر البنية التحتية بالشكل الذي يريد له أن توجه هذه المقاومة جيبها نحو الإنفاق على الوضع المعيشي الصعب للناس، بدلاً من حفر الأنفاق وتحسين إمكاناتها.
وإن دلت هذه السياسة على شيء فإنها تؤكد السقوط الأخلاقي لدولة الاحتلال، ابتداءً بمستواها السياسي إلى المستوى العسكري وليس أخيراً الشارع والرأي العام الصهيوني الذي يتطلع إلى المزيد من سفك الدماء مقابل عودة الأمن واستتبابه.
وفي حين فرض الاحتلال هذا العدوان على الشعب الفلسطيني، فإنه يحاول الآن استثمار الوقت على أمل تدمير عدد كبير من الأنفاق، خصوصاً في المناطق الحدودية مسرح عدوانه البري، مدركاً أن أي توغل إضافي بعيداً عن الحدود قد يعني لعنة حلت عليه.
حتى هذه اللحظة، لم يحقق العدو أي هدف من أهدافه، فهو لم يتمكن من منع وصول قذائف المقاومة إلى عقر داره، ولم تتوقف عمليات اصطياد الأخيرة للجنود الإسرائيليين، حتى أن قوات الاحتلال متخوفة جداً من التقدم براً في ظل ما تملكه المقاومة من تهديدات حقيقية.
ويبدو أن تحسن أداء المقاومة، زائداً على ذلك عدم تحقيق الأهداف الإسرائيلية، قد يعني العودة مرةً أخرى إلى مسلسل العدوانات، وبالتأكيد لن يكون هذا العدوان الحالي هو الأخير في أجندة الاحتلال الإسرائيلي الذي لم ينفع معه "سلام" و"غصن زيتون" الرئيس أبو مازن.
حالياً تجرى مشاورات مكثفة وتحركات دولية لوقف إطلاق النار، في ظل تواطؤ المجتمع الدولي مع الاحتلال الإسرائيلي بسبب عدم رغبة الأول في وقف العدوان، حتى يحقق الاحتلال مكاسب عسكرية تجعله قادراً على فرض شروطه باتجاه إرغام المقاومة على وقف إطلاق النار.
ولعل صمود المقاومة وجاهزيتها الميدانية، سترغم المجتمع الدولي أخيراً على إيجاد صيغة لوقف العدوان الصهيوني، سواء بتطوير المبادرة المصرية أو اختراع واحدة جديدة، أو بجهود دولية تبذلها دول في مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية.
إن هذا الوقت ثمين جداً، ويحسب للمقاومة قدرتها على استثماره، وإن كانت تحضر خطاب النصر، فإن قوتها في سلاحها الذي يبدو أنها لن تتخلى عنه، لأنها لو فعلت ذلك فإنها ستكون مكشوفةً أمام العدو الذي سيستهدفها في كل الأحوال.
التهدئة مقبلة لا محالة، وإن كانت ستراعي بعض شروط المقاومة لا كلها، إلا أن الأخيرة ستجتهد في إيجاد القنوات والمخارج التي تمكنها من إعادة تسليح نفسها وتطوير قدراتها، لأن وقف إطلاق النار الذي سيثبت قريباً في قطاع غزة، سوف تخرقه "إسرائيل" في المستقبل المنظور.
المهم بعد هذا العدوان شيئان ضروريان، الأول هو "رفس" كل الخلافات الداخلية والعوائق والتأكيد على الوحدة الوطنية من أجل الوطن والمواطن، وثانياً مواصلة النضال الدبلوماسي وفضح "إسرائيل" أمام العالم على المجازر التي ارتكبتها وإدانتها ومعاقبتها على هذا الفعل الإجرامي "غير الرجولي".
أخيراً، لا يتوقعن أحد أن يتحول الاحتلال إلى "حمامة سلام"، وليس علينا أن ننسى أو نسقط من حساباتنا الجرائم التي يرتكبها هذا الاحتلال منذ تطفله الوجودي وحتى بعد اتفاق "أوسلو" السلامي وإلى يومنا هذا، فالأصل أنه احتلال استيطاني إحلالي قائم على إلغاء الشعب الفلسطيني عن وجه البسيطة.