إكرام الميت دفنُه، لكنّ كثيرين من ضحايا العدوان على غزة ما زالوا تحت الأنقاض. ماذا يفعل ذووهم؟ ولماذا يعتقدون أنهم ما زالوا أحياء؟
وسط مشاهد الدمار الواسعة التي تتسبب بها حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، هناك مشهد بمنزلة جرح غائر في قلب كل غزّي يمر بجوار البيوت المدمرة، ويشعر بالأرواح التي لفظت أنفاسها الأخيرة تحت الأنقاض، ولم تجد من ينتشلها حيّة أو حتى يكرمها بالدفن. أرواح لم تحظ بالوداع ولم تُذكر أسماؤها في سجلات الشهداء. لا أحد يعلم عن محاولاتهم للتشبث بالحياة، وكم حاولوا الاستغاثة قبل أن تختنق أنفاسهم بالتراب والحجارة.
منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2023، وشقيقي الشاب تامر العكة محتجز تحت أطنان الركام رفقة زوجته هند حسونة وأطفالهما تالا (8) أعوام، وزينب (6) أعوام، وخليل (3) أعوام وآخرين من عائلة زوجته يقدر عددهم بـــ 18 شخصاً. بحث أبي الستيني، خليل العكة، عنهم بكلتا يديه لثلاثة أيام متواصلة قبل أن يُجبر على النزوح جنوباً، ولم يتمكن من استخراجهم بسبب انعدام توفر الوقود ومنع الاحتلال عمل وسائل الإنقاذ.
ناشد أبي الدفاع المدني كثيراً من أجل إدخال معدات لإزالة الركام وإنقاذ الأحياء الذين كانت تُسمع أصوات استغاثتهم لكن من دون جدوى، بينما أُدخلت شاحنات عملاقة من الجانب الإسرائيلي من أجل نقل أطنان الركام المعجونة بدماء الشهداء إلى شاطئ غزة؛ لتشييد رصيف بحري قيل إنه مخصص لإدخال المساعدات الإنسانية للقطاع.
لقد قهرنا بقاؤهم تحت الأنقاض. أراد أبي أن يكرم ولده وأحفاده بالدفن. ربما كان سيكتب على شاهد القبر "استشهد بعمر الورد"، بينما أرادت أمي احتضان جسده العفي القوي لتتأكد أنه فارق الحياة، لكنها لم تحظ برؤيته ولم تصدق بعد أنها فقدته إلى الأبد مع كنّتها وأحفادها. لم يصدق أحد منا خبر رحيله، واكتفينا بالقول إن "شقيقي تحت الأنقاض". ماطلنا كثيراً حتى نعيناه، وظللنا نراهن على خروجه. ربما لأن شخصيته اتسمت بالعناد والبحث دائماً عن مخرج وحلول!
في مكالمة مع شقيقي، مؤمن، الذي يقيم في الخارج قال لي إن: "لا أقبل العزاء.. لعله تمكن من إنقاذ نفسه وقريباً سيتصل بنا". حينها، صمتّ طويلاً وتبنيت رأيه أننا جميعاً في حالة انتظار!
قالت لي صديقة مواسية إن "بقاءه (شقيقي) تحت الأنقاض أفضل له، لأن جثث الشهداء المنتشرة في الشوارع تنهشها الكلاب". ساءني تعبيرها، لكن هذه المشاهد المأساوية نشرتها بالفعل وسائل الإعلام. شعرت إثرها بنوع من الارتياح لمصيرهم. وقد وثق "المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان" مطلع كانون الثاني/يناير الماضي، اعتداء "جيش" الاحتلال على 12 مقبرة على الأقل في قطاع غزة عبر تعمّد تخريبها وسلب عشرات الجثامين. الفريق الميداني للمرصد عاين مقبرة (البطش) شرقي غزة - استحدثت في تشرين الأول/أكتوبر 2023 بغرض دفن العشرات من الشهداء مجهولي الهوية بعد تكدسهم في مشفى الشفاء - وتعرضها إلى عمليات تجريف واسعة والدوس بالآليات العسكرية على الجثامين. "إسرائيل" لا تكتفي بقتل الناس، بل تذهب إلى حد حرمان ذويهم من مجرد زيارة قبورهم.
تكرر هذا الفعل ابتداء من بيت حانون شمالي غزة إلى رفح في جنوبها، وكان قد عبّر أحد الآباء عبر صفحته على "فيسبوك" عن قلقه على طفله المدفون في مقبرة برفح، بعدما اضطر للنزوح عنها. الناس ما زالت تخشى على مصير أبنائها سواء كانوا أمواتاً أو أحياء.
وقتها، شعرت بأن شقيقي ربما كان فعلاً أوفر حظاً من غيره، ويبدو أن هذه المشاعر لا تعدو كونها مخدراً مؤقتاً، قبل أن يعود البركان ليتقد في داخلي، فأتساءل: "كيف أصبحت أجسادهم الآن؟ هل استحالت عظاماً؟ كيف سنميزهم؟ حسناً، لا يمكن لأهلي أن يخطئوا في معرفة ابنهم. سنميزه بالنظر إلى أسنانه! فحين كان في الــ 15 من عمره فقد أحد أسنانه الأمامية وقام بتركيب آخر صناعي، لكن ماذا عن زوجته وأطفاله؟ كيف سنتعرف إليهم؟ لا سيما أن المنزل كان ممتلئاً بالنازحين من النساء والأطفال؟".
لا أحد يعلم كم عدد الشهداء ممن بقوا تحت الأنقاض، لكن تقريراً لمنظمة "أنقذوا الأطفال" البريطانية يفيد بأن نحو 21 ألف طفل في غزة فُقدوا نتيجة الحرب. إما عالقون تحت الأنقاض، أو محتجزون في سجون الاحتلال، أو مدفونون في قبور غير معروفة، أو ضائعون عن عائلاتهم.
هكذا، وبعد مرور 8 أشهر انتابني الفضول مجدداً لمعرفة عدد وأسماء الأشخاص الذين كانوا مع شقيقي. حادثت شقيقتي شيماء التي تعيش الآن النزوح السابع في دير البلح وتحتمي مع طفليها، ميرا وعبد الله، في عريشة سقفها جريد النخل ولا جدران لها. استغربت أختي سؤالي، وأجابتني بسؤال أشد غرابة وفتكاً: "ليش بتسألي؟ لقيتوه؟ لقيتو تامر طلع عايش؟". ارتعد جسدي. لم أجد ما أقوله لها، لكنني تبنيت سؤالها، وصار هاجسي الآن.
الدفن اللائق من أبسط حقوق الإنسان. لا يتنازل أهل الميت عن هذا الحق حتى في أشد الأوقات حلكة وصعوبة، إذ لم تتنازل السيدة السبعينية ليلى القولق، وهي قريبتي من جهة أبي، عن دفن ابنها محمد (35 عاماً) وهو من الأشخاص ذوي الإعاقة. فحين توغل "جيش" الاحتلال الإسرائيلي في منطقة تل الهوا في غزة أمر السكان بالنزوح، وبينما كانت منشغلة بأبنائها الآخرين، غافلها محمد للنظر إلى النافذة فتم قنصه على الفور. أرادت "المناضلة" - هكذا أطلق عليها من عرفها، كونها ترملت في سن صغيرة وربت 7 أيتام 4 منهم ذوو إعاقة، اعتنت بهم وحدها، تتابعهم من خلف ماكينة الخياطة التي خاطت لي أجمل فساتين طفولتي- أرادت أن تدفن جثمان ابنها، لكن "جيش" الاحتلال أجبرها على النزوح.
في صبيحة اليوم التالي، عادت ليلى القولق بعنادها الذي أنساها خوفها. فقد أصرت على استخراج جثة ابنها من المنزل وإكرامه بالدفن. ليلى فقدت أيضاً حفيدتها الطفلة المريضة التي فارقت الحياة لعدم توفر العلاج، ولا يُعلم حالياً في أي أرض حطّ بها النزوح، حالها كحال 2 مليون إنسان في غزة يصارع من أجل البقاء أو الخلود.
العدوان الإسرائيلي على مدينة خان يونس مستمر منذ أكثر من شهرين. ومع كثرة توارد أخبار الإبادة وأعداد الشهداء وملاحقتي لعائلتي التي تعيش الهلاك في النزوح، فاتني الاطمئنان إلى صديقة الطفولة فداء عياد وهي نازحة إلى خان يونس، حتى هاتفتني مؤخراً، وجاءني صوتها ضعيفاً للغاية، "أنا مش بخير". شعرت بالفزع وهيأت نفسي لأمر عظيم ولم أتخيل أنه سيكون بهذا الثقل، "بدر راح يا شيرين، بدر بدر" وغاب صوتها. فقدت الاتصال بفداء.
كان بدر (14 عاماً) يد أمه اليمنى في إنجاز أعمال الخيمة. يرتب الفراش وينظف أواني الطعام، ويجمع الحطب لإيقاد النار في الفرن. في ذلك اليوم، فارق أمه وتركها تخبز أرغفة الخبز وحدها. التفتت باحثة عنه، وظنت أنه ابتعد للعب مع أقرانه، خاصة وأنه أصر يومها على الاستحمام مبكراً وارتداء بلوزة شقيقه الأكبر.
ابتعد بدر عن العمل الشاق بجوار الفرن في أكثر أشهر السنة حرارة.. تموز/يوليو! وذهب إلى ناصية الشارع. شاهده والده وطلب منه مرافقته في مشوار سريع، لكنه تلكأ أيضاً عن مرافقته. لزم مكانه على ناصية شارع العطار وسرعان ما تعرض للقصف وذهب معه أكثر من 28 شهيداً وضعف هذا العدد من الجرحى. نهضت أمه على الفور وتركت أرغفة الخبز تحترق خلفها. ذهبت لتبحث عن بدر تحديداً دون أشقائه الأربعة.
علمت بهذه التفاصيل لاحقاً بعد محاولات عديدة للاتصال بها. ترددت كثيراً قبل أن أسألها السؤال الذي صار هاجسي: "هل حظيت بوداعه؟ هل حصل على قبر؟". أجابتني مسرعة: "ودعته أه، جابوه لعندي وودّعته، وأه دفناه، ابني إلو قبر دفناه في خان يونس جنبه شهداء كثير"، وتابعت "الي ما بيندفن بتروح عليه!". شعرت بوخز كلماتها لكن لا يمكنني لومها. صمتنا أنا وهي، ثم أضافت بقلق "لما نروح على غزة بدنا نتركه هنا؟"، توقفت لحظتها وكنت طيلة المكالمة أجوب الغرفة جيئة وذهاباً. توقفت وطلبت منها إيضاح، "ماذا تقصدين؟".
"بكره لما نرجع على غزة رح نترك بدر بخان يونس لحاله؟، لا لا ما بقدر، أبوه بفكر ينقل قبره معنا على غزة".