ريما محمود: همي هو هم شعب بأكمله.. فقدت والدها ومنزلها وتهرب من حزنها بتوثيق قصص الجرحى
ريما محمود..
ريما صبية فلسطينية طموحة وهي مخرجة واعدة لديها رؤية خاصة بقضايا المرأة.. لم أكد أعرفها حين رأيتها، فقد وقفت لها الحرب بالمرصاد لتغتال أحلاماً بالكاد بدأت تتحقق.
الحرب أغارت على قلب ريما وجعلتها صبية أخرى تحاول بجرأة ليست يسيرة أن تتماسك وأن تختار طريق الحياة لأجل من بقوا أحياء..
تغالب دموعها وتخرج رغم ألمها وتعبها ورغم جبال الحزن التي أورثتها الحرب حين اقتنصت من والدها وأخذته وهربت، ودمرت الطائرات الحربية بيتهم لتجعلها تفقد توازنها.. الحرب نالت من ابتسامة ريما وأورثتها الحزن واللوعة والشوق لوالدها الحبيب.. تحدثك وعيناها تلمعان لكنها لا تبكي.. تذهب للبحث عن بيت يضمها وعائلتها مرة أخرى لكنها ترجع في كل مرة خالية الوفاض.. لم تكد تجتهد لتصدق أنها فقدت أبيها وبيتها حتى نالت الحرب من عائلة عمتها وبناتها وأطفالهن لتغتال 16 فرداً منهم.. كيف ستواجه الحياة وكيف ستتقبل رحيل الجميع وكيف ستكون ذاتها من جديد أسئلة تدور بقسوة دون أي إجابات في رأسها الصغير..
ريما فتاة فلسطينية تسكن في قرية عبسان في خانيونس لم تتجاوز السادسة والعشرين، تبدأ حديثها بالقول: "كنت أعمل بجهد كبير على حياتي المهنية أردت أن أكون مخرجة أفلام مميزة وشاركت بإخراج عدة أفلام منها "أحلام مسلوبة"، "طفولتي"، "بقعة حمراء"، وقد تلقيت تدريبي في الإخراج والتصوير في مركز شؤون المرأة وشاركت في مهرجاناته وفي لحظة من اللحظات اعتقدت أني أعرف طريقي جيداً وأني بدأت في بناء اللبنة الأولى حتى جاءت هذه الحرب المسعورة التي أخذت كل شيء.. كل شيء.!!"
تصمت ريما وأحني قلمي.. تتعالى على جرحها لتأخذ نفساً وتحجب دموعها وتكمل بصوت متقطع: "كنت قد ارتديت ملابسي صباحاً لأني كنت أعمل على فيلم جديد وأردت الذهاب لغزة فاستوقفني أبي حازماً وقال لي لن تذهبي لأي مكان الدنيا حرب.. لم أكن أشعر بالخوف أو بجدية الحرب وقسوتها حاولت إقناعه دون جدوى، أصغيت له وأدركت لاحقاً أنها حرب حقيقية وأصبح لدي شعور أنه سيحدث أمر سيء لنا بالبيت، خاصة مع متابعتي للمجازر التي قام بها الاحتلال بعائلة أبو جامع بخانيونس وغيرها من مجازر وصار القصف شديداً بمنطقتنا، كان التوتر سيد الموقف وكذلك الخوف والرعب كان مسيطراً علينا لأن القصف بكل مكان حتى تم إطلاق صاروخ تحذيري على سطح منزل دار عمي المجاور لبيتنا، ولم تكف الرسائل من خلال أسطوانة هاتفية إضافة إلى المناشير التي ألقوها على أهالي عبسان وخزاعة تجبرهم فيه على التوجه إلى بني سهيلا.!! ومع ضرب الزنانة اتصلنا على الهلال الأحمر وجاء وأخذنا وطلعنا من المنطقة".
وتكمل: "أمي ارتفع ضغطها والسكر وأخذناها على المشفى وعملنا لها تحاليل، نمنا عند أقاربنا في منطقة الفراحين لكنا لم نغفو فالدبابات والطيران والقصف من كل الجهات استمر بشكل جنوني، كنا قلقين على والدي لأنه رفض يطلع من المنطقة وظل مع الرجال ليحموا البيوت لما طلع النهار، رحنا نطمن ع البيت وع أبوي والحمدلله كان أبي بخير وكذلك البيت لم يصبه شيء، دار عمي كانت قد وقعت حائطهم نتيجة الصاروخ التحذيري، ليطمئن علينا أبي أخذنا لبيوت الأقارب وظل هو خمسة أيام قريب من البيت حتى حدث ما خشيناه طيلة الوقت صاروخ حربي فاجأهم على بيت مجاور لدار عمي ثم صاروخ حربي آخر انفجر فطار أخي على مسافة بعيدة، وأصيب بشظايا في يده، ثم صاروخ ثالث هو من أصاب أبي ولم يرحموا أحداً وضربوا صاروخ أباتشي رابع حسب ما قاله لنا شهود العيان".
وتقول: "اتصل جارنا وقلي بيتكم انقصف وأبوكي استشهد، هرعنا إلى مستشفى ناصر ورأيت أبي في ثلاجة الموتى".
***
هنا تسكت ريما كما سكتت شهرزاد ذات ليلة تصمت وتنهار قواها حين تفرست في ملامحه كأنها تراه، رأته في الثلاجة مرتين لكنها حين لمحت عمها قادماً أشارت فرحة هذا أبي أبي لم يمت.. هزتها أختها وأشارت للثلاجة بل هذا أبي.. لم تقنع ريما لأنها أرادته حياً..!!
تقول: "أمامك أبوك ميت ممدد بالثلاجة بالكاد ترين وجهه كيف ستكون مشاعرك، كنت أكلمه قبل ساعة وقلتله ارجع يا أبي مازحني بالقول: بدي أموت في داري، مابدي أطلع؟! هو كان يعرف ولم يخبرني هو أصرّ على الرحيل وأنا قلبي دفن مع جثته..!!
.. اشتريت الورد وانتقيته بعناية لأجله وحين تشييعه قبلته ووضعت الورد على جروحه وعلى جسده وصرت أغرسها فيه وأهذي.. أنا يا بابا بحبك ليش رحت وسبتني..!
كأن جسده أمامها فاحت رائحة العطر ورائحة الورد.. كأن روحه حامت بالمكان امتلأت ريما بالشجن والحزن هو حاضر في وعيها وخيالها ولازال حياً في وجهها لكنها تكابر الألم والحزن.
تقول ريما: "كي لا أموت حزناً خرجت وذهبت للمشفى لألتقي الناس وأدون قصصهم وأجريت عدة مقابلات مع مصابين بالمشفى وربما هذه القصص التي أعادت لي صوابي وأدركت أن همي هو هم شعب بأكمله، كان من الصعب أن أسلم نفسي لليأس والانكسار فأنا فتاة طموحة وخشيت على نفسي إن انطويت ألا أعود كما كنت ربما لن أعود تماماً كما كنت لكني أحاول وأجتهد".
وحول بيتها تقول: "حياتنا وذكرياتنا وكل شيء جميل لنا في البيت غرفتي وأشيائي الخاصة كلها في الركام ربما لا أرغب في شيء منها الآن لكني أرغب أن تكون لي خصوصيتي أتمنى أن نجتمع نحن أفراد العائلة مرة واحدة على مائدة واحدة وفي بيت واحد هذا يزيد من عذابي وحزني وألمي حياة التشرد هذه لا تنسجم مع قدراتي، حاولنا جاهدين إيجاد شقة وفي كل مرة نجد مشاكل في قدرتنا على ذلك، عيوننا على بيتنا ولكن الحرب لم تضع أوزارها وليس بالإمكان أن نظل هكذا من بيت لبيت رغم روعة المستضيفين لكن لا مكان كالبيت والبيت وطن".
وتقول بألم: "أشعر أحياناً بالضياع والقهر، مش عارفة كيف بدي أرجع مثل ما كنت.. مش عارفة إذا بأقدر أكمل بمجال الإخراج، وإذا هاي فعلاً أولوية العائلة..!! أمي أول ما بنروح نطل ع الدار بتروح عند العنبة بتظل قاعدة مطرح قعدتها مع أبوي دائما، أمي هي اللي مخلية دموعي جواي ما بدي أنهار أو أبكي علشان أظل قوية علشانها، بعد أسبوع كل عيلة عمتي راحت.. 16 نفس راحوا من الدار مصيبة تانية ومذبحة تانية مش عارفة كيف ممكن قلبي يتحمل كل هالوجع والألم؟! هل ممكن فعلاً أتحمل كل هذا؟ أحياناً بأقول يارب صبرني.. أحياناً بحس أني مصدومة ومش قادرة أفهم شو اللي بيصير..!!"
* كاتبة إعلامية فلسطينية- غزة