هربت كل طقوس الكتابة، لست أملك إلا قلم رصاص وورقة بيضاء، مع تحفظي على كلمة رصاص لأنني أريده قلم حياة فالحياة عزيزة الآن في غزة، كثيرون يأبون إلا أن يقطفوها كزهرة استعجلوا وأدها.. خاصة تلك الورود الصغيرة لأنها جميلة تخطفها الأيدي ولا تتركها تعيش.. أطفالنا باتوا زهرات تنزع عنها أوراقها وألوانها ورحيقها.. أشعر بالوجع الآن..!!
هربت كل طقوس الكتابة بعد أن انسلت الروح من الجسد هكذا بكل بساطة فيما تعد طعام الإفطار لعائلتها تدفن هي وهم تحت ركام بيتهم هكذا بدون مقدمات..!! هكذا ترحل الحوريات وعائلاتهن عن الأرض في غزة كل شيء يحدث فجأة طيلة الوقت تركض تركض تبحث عن شيء مفقود دوما تشعر أنك ملاحق وأن العيون تترصدك..
هربت كل طقوس الكتابة فأحيانا يحبوك حد الموت أحيانا يكرهون حد الموت..!! وأنت لا ذنب لك سوى أنك فلسطيني وفلسطينية هجرت من بلدها في قرى فلسطين المحتلة لتصبح لاجئا ولاجئة في قطاع غزة.. غزة هي مزيج الحياة لكل اللاجئين هي طعم فلسطين ورائحتها.. إنهم يشوون لحمهم الآن.. يقطعون أيديهم وأحيانا رؤوسهم قبل أن يغمضوا أعينهم.. اعياني الحديث يا سادة لا أود أن تروا غزة سوى وردة..!! وردة لا زالت تحتفظ برأسها وساقها وجذورها والأهم أنها لا زالت تحتفظ برائحتها.. أعياني الحديث يا سادة ونسيت طقوس الكتابة..!!
كنا نركض طيلة الوقت وتعبنا من ركضنا.. صراخنا.. عويلنا.. حتى أننا غدونا نتعامى عن ألمنا اليومي، كلكم ذبحتم غزة كلكم نلتم من قلبها وأغلقتم أبوابكم وآذانكم في وجهها، ورأيتم أنها نقطة السواد في حياتكم الجميلة وأنها باتت عبئا على قلوبكم وعلى رفاهيتكم، كلكم قبل العدوان ساهمتم في كسر خاطرها ورأيتم قوت الصغار تسول..!! وقلتم مالم يقال في حقها ولكنها في كل مرة تذكركم أنها أكبر من أن تذكركم بخطاياكم فمن منا بلا خطيئة يا سادة.. لكنها وردة فاحت رائحتها الزكية مع بحر الدم الذي أعاد صوابكم وحبكم وربما كرهكم فالبعض أعرب عن هذا الكره والبعض تراجع والبعض تعامى والبعض استل قوته ليسحب رحيقها مع فحيح الطائرات الحربية الإسرائيلية..!!
نسيت طقوس الحكاية وكيف تروي الجدات الحكايا ونسيت بداية العدوان لأننا لم نشعر بالراحة يوما، دوما ندرك أن عيونا ترصدنا ترصد همساتنا وسكناتنا، وحتى محاولتنا لنلملم جراحنا ونتشاجر أحيانا كثيرة لأن القفص بات ضيقا خانقا لكن المتلصصون والمتفرجون كانوا كثر.. كنا نركض قبل العدوان ولازلنا نركض أثناؤه ولسنا على يقين بأنا سنقف عن الركض..!!
كيف سنعيد للحياة رونقها بعد أن سلبت أجساد الصغار..؟ هو يحمل جسده بين يديه ليس بحاجة لنعش فيديه باتت نعشا لطفله المكفن بالقماش الأبيض.. يمشي رافعا رأسه ودموعه تسيل.. لكنه محظوظ بقي على قيد الحياة ليشيع ابنه فعائلات بأكملها دفنت في منازلها ولم يتبق أحد منها ليشيع جثمان أحد.. هكذا بكل بساطة في هذا العالم الحضاري صاحب الحقوق والمواثيق الدولية وحق الحياة وحق السكن وحق التعليم وحق التعبير وحقوق ليست للفلسطينيين هي لأحد غيرهم..
من يحفل بالنساء وهن يهرولن بثياب الصلاة تلك التي في متناول اليد ليتمكن من الهرب حين يباغتهن حقد أسود على رأس صاروخ متفجر يفتت أحلامها ويجعلها لقمة صائغة للمعاناة والقهر والوجع، تحمل طفلا تحمل قلبا داميا تحمل ألماً.. وتنسى مسنا تنسى قلبها في ركن الدار.. تخشى النظر للوراء كي لا تشاهد أحبتها مضرجين بدمائهم..!! تركض وتظل تركض إلى مالا نهاية لأنها إن توقفت لن تركض أبداً..!!
لا مساحات للحياة.. لا مكان للرجوع.. غزة كلها تودع بعضها البعض كل ليلة وتهنئ من ظلوا أحياءًا صباح يوم آخر.. يتفقدون أجسادهم ثم يتحسسون على أحيائهم ويغمضون أعينهم ثم يفتحونها ويعودوا لينادوا أفراد أسرهم فرداً فرداً.. كي لا تسقط الذاكرة أسماءهم وتغيب أرواحهم.. من يبكي من؟ سيء الحظ هو من بقي وحيداً على قيد الحياة دون عائلة استشهدت بأكملها..!!
لن أخبركم بما تحكيه لنا الجنيات الصغيرات كل فجر كل ليلة كي تجعلنا نبتسم قبل أن نذهب في غفوة ونحن لازلنا نركض.. نركض إلى الحياة..
لم يعد لدي كلام فقد تهاوت كل طقوس الكتابة.. ففي غزة وحدها تعيش الحكاية رغم الاحتلال وتبقى فلسطين نابضة في قلب من رحلوا ومن ظلوا على قيد الحياة..
* كاتبة إعلامية فلسطينية- غزة.