بمجرد توجيه الكونغرس الأميركي دعوة إلى نتنياهو لإلقاء خطاب في الكونغرس، شكّل معنى وحيداً، هو دعم نتنياهو ومحاولة تبييض صفحته التي ساءت كثيراً، إلى حد وصمه بمجرم إبادة ومجرم حرب. ولكن متابعة أعضاء الكونغرس الذين حضروا الجلسة، مع غياب أكثر من 130 عضواً، جيء بآخرين ليملأوا مقاعدهم، يدهشون أيّما إدهاش من الخفة والتهافت المصطنعين، وهم يقفون مصفّقين إثر كل فقرة من فقراته (أكثر من 50 مرة)، بل حدث لفقرة أن هبّوا وقوفاً مصفّقين قبل أن يسمعوها، ما يدّل على أن حركة الوقوف والتصفيق متفق عليها ومعدّ لها مسبقاً. وذلك بإخراج استعراضي قصد منه أن الكونغرس في حالة تماهٍ مع سياسات نتنياهو، وبما اتّسم فيها من تهم مجرم حرب ومجرم إبادة، ومنتهك وقح للقانون الإنساني والقوانين الدولية، والقِيَم الإنسانية، ما يؤكد أن موقف هؤلاء هو موقف نتنياهو من الإبادة والقتل الجماعييْن للمدنيين.
إن هذا المسلك الأرعن من الكونغرس الأميركي في التعامل مع الخطاب، وضع غالبية أعضائه من جمهوريين وديمقراطيين، الذين شاركوا في الاستماع للخطاب، بالمنزلة نفسها التي هبط إليها نتنياهو، بما فيها جرائم القتل الجماعي للمدنيين الآمنين، وأغلبهم من الأطفال والنساء والمسنّين، والناس العاديين في بيوتهم التي هُدمت على رؤوسهم، أو قتلهم وهم في الطريق يفرّون من القصف الذي راح يلاحقهم.
ثمّة شبه إجماع عالمي على أنّ القصف والقتل الجماعي، كانا موجّهيْن ضدّ آمنين مدنيين، وليسا ضدّ مقاومين مقاتلين من قوّات «عز الدين القسام» أو «سرايا القدس»، أو من مقاتلي الفصائل الأخرى المشاركة وفي مقدّمها قوات «أبو علي مصطفى» (الجبهة الشعبية). وهؤلاء متخفّون، إمّا تحت الأنفاق، أو في أماكن جيّدة لعدم الانكشاف. وإذا ارتقى من هؤلاء شهداء، فيحدث ذلك في أثناء الاشتباك الصفري، حيث المبادرة بأيديهم، فيما أغلب القتلى والجرحى من نصيب جنود الجيش الصهيوني وضباطه، كما الخسائر في الدبابات والآليات، أو في البيوت والأنفاق التي تحوّلت إلى أفخاخ الموت، بالنسبة إلى الجيش الصهيوني.
ولكن، بالرغم من هذه الحقائق، والتي يعرفها أعضاء الكونغرس، ولو من خلال التقارير السرّية التي تصلهم، فضلاً عن الإعلام الذي ينقل عن الناطق باسم الجيش الصهيوني، مع ذلك، ذهب نتنياهو في كلمته إلى الكذب، فالكذب فالكذب، كما لو أنه كان يتكلّم عن حرب غير حرب الإبادة، أو الحرب البرّية في قطاع غزة.
بالتأكيد لم يخطئ نتنياهو في ذكر أي موضوع في خطابه، له نصيب من الواقع والموضوعية، وهو ما لم يحدث أن يُروى عن حرب شاهدها العالم بتفاصيلها، ومع ذلك لم تخرج من فم نتنياهو كلمة واحدة غير كاذبة، وعلى مشهد من العالم كله. ولهذا، عندما يندفع أعضاء الكونغرس الأميركي ليقفوا ويصفّقوا مصدّقين وموافقين، يكونون قد جعلوا من أنفسهم أضحوكة يستحقّون معها درجة من الازدراء والاحتقار. وهم تحت القبة التي خطب فيها الآباء المؤسسون، وقد أشيع فيها الكثير، ولو مبالغة، عن جديتها واحترام النفس فيها. أمّا أن تصبح تلك القبة مكاناً للكذب المطلق الصراح، بالنسبة إلى نتنياهو، ومكاناً لشهادة الزور في تصديق الكذب، والترويج له من قبل أعضاء الكونغرس، فوصمة عار أخرى للديمقراطية الأميركية في عقر دارها.
إذا أراد الكونغرس الأميركي أن يدعم نتنياهو، فما الذي اضطره إلى أن يتصرف بكل هذا التهافت، وتلك الخفة والسقوط المعنوي والأخلاقي. فلو عدنا إلى المرات التي وقف فيها الكونغرس مصفّقاً لنتنياهو، لوجدناها أكثر من إدانة للكونغرس بدعم الإبادة، ما يفرض على أن ينال الكونغرس كل ما يناله نتنياهو من إدانة بالقتل الجماعي والإبادة.
صحيح أن بايدن يُعتبر شريكاً لنتنياهو طوال تسعة أشهر من الحرب على قطاع غزة، سواء أكان بإمداده غير المحدود بالسلاح، أم بالتغطية السياسية، وأحياناً التهرب من أجل إنقاذ ماء الوجه، أو التخفيف من الفضيحة، إلّا أن الكونغرس بدّد كل وهم بوجود بعض التوازن، ولو بالانحياز شبه المطلق إلى نتنياهو، أو الاختباء وراء الوعد الكاذب، بحلّ الدولتين التصفوي.
هذا الفارق، بغضّ النظر عن حجمه بين موقف الإدارة وموقف غالبية أعضاء الكونغرس الأميركي، يفسّر كون الآخرين أكثر استلاباً وانقياداً، وراء داعمهم الانتخابي الأول.
تبقى نقطة أخيرة يجب أن تقال لأميركا الرسمية: هنيئاً لك ولأوروبا، ما أكّده نتنياهو بأنه يمثل الحضارة الغربية، وهو المُدان طولاً وعرضاً، كمجرم حرب ومجرم إبادة إنسانية. وقد شهد له الكونغرس وقوفاً وتصفيقاً وتأييداً.
* كاتب وسياسي فلسطيني