ثلاثة أسابيع مرت على تشكيل وإعلان حكومة الوفاق الوطني، بدون أن يشعر المواطن الفلسطيني، بوجود حكومة، أو وفاق وطني. نعلم سلفاً بأن المصالحة عبارة عن عملية طويلة، معقدة، وشائكة، تنتصب في طريقها إلى الوحدة، عقبات إسرائيلية وأخرى فلسطينية.
ونعلم أيضاً أن هذه العملة ستتخللها آليات جرجرة وتدفيع أثمان عما مضى، وتشفٍّ من قبل الفصائل بعضها ببعض، ولكن ليس إلى هذا الحد نتوقع من المعنيين بالأمر، تجاهل الرأي العام، وهموم المواطن، وكأنه هو المسؤول عن الانقسام. لم يتغير الوضع في قطاع غزة، منذ ثلاثة أسابيع، بدون أن نحتسب ما قبلها منذ توقيع اتفاقية الشاطئ، فالناس في القطاع، تزداد معانياتهم، وأقولها بدون حساسية العصبوية الجهوية، بأنهم يشعرون بأنهم أبناء "البطة السوداء".
تعتصر قلوب الناس، في قطاع غزة، وهم يراقبون الاجتياح العسكري والأمني الإسرائيلي لمدن الضفة، ويراقبون أيضاً معانيات الأسرى في سجونهم، وهم يتحرقون للحرية، ولكنهم أيضاً اي الغزيين، يعيشون تحت وطأة انتظار عدوان إسرائيلي واسع على القطاع، بمجرد أن تفرغ القوات الاحتلالية من مهماتها الإجرامية في الضفة.
في غزة يدرك الناس، النخب منهم على وجه الخصوص، أنهم حين يتفاعلون مع نظرائهم في الضفة، بأنهم مجرد ديكور وطني، أو استكمال زائد لأعمال وأفكار تتم في الجانب الآخر من الوطن، بدون الحاجة إليهم.
لا ينبغي لأحد أن يضربنا بسيوف المزايدات الوطنية، ولا لأن نتهم بأننا لا ندير بالاً لما يجرى في الضفة، من معانيات بسبب الأوضاع المعيشية السيئة، وبسبب الجدار، والتهويد، ومصادرة الأراضي والاستيطان وبسبب مصادرة الحريات، والقمع الإسرائيلي الذي لا يتوقف.
انتظر الناس، حسنات المصالحة، وكان أولها، سهولة الاتفاق على رئيس الحكومة، وعلى الوزراء، والحقائب. رغم أن للناس رأيا آخر في كل ما جرى من اتفاق بين حماس وفتح، ولكنهم أصيبوا بخيبة أمل كبيرة ربما كانت أسوأ من خيبات الأمل التي أصيبوا بها مرات كثيرة، خلال مرحلة الحوار الطويلة، التي وقعت إبان مرحلة الانقسام.
يقول وزير الخارجية الدكتور رياض المالكي إن الحكومة المقالة في غزة انتهت، وانتهى معها الجهاز الإداري، الذي اشتغلت به، ولم يعد هناك موظفون، كانت حكومة غزة قد استعانت بهم، ما يعني أن غزة بدون إدارة، أو سلطة معترف بها.
إذا كان المالكي يتحدث عن مشكلة الموظفين والرواتب والشرعية فهذا أمر آخر، لا يجوز في كل الأحوال تجاهله من قبل حكومة الوفاق ومن قبل القيادة السياسية، ذلك أن تجاهل نحو أربعين ألف موظف وأسرة، أمر لا يمكن لأي مسؤول أن يتجاهله أو يمر عليه مرور غير الكرام. غير أن المالكي يتحدث عن غياب الجهاز الإداري، حيث لا وجود لوزراء أو طواقم، ما يضاعف مسؤولية حكومة الوفاق عن تقصيرها في ملء الفراغ، إن كان هذا الفراغ كلياً أو جزئياً.
لا يوجد فراغ إداري في قطاع غزة، فما عدا الوزراء الذين غادروا مواقع عملهم وفق مقتضيات الاتفاق، وبعد تشكيل حكومة الوفاق فإن كل الطواقم والأجهزة المدنية والعسكرية والأمنية، تعمل، وهي تنتظر أن يأتيهم وزراء الوفاق، حتى يتسلموا مهماتهم.
ولكن لماذا لم يأت رئيس الحكومة الدكتور رامي الحمد الله، كمقدمة لحضور الرئيس محمود عباس، الذي يفترض أن يرعى مواطنيه، ويدير أشغاله من القطاع، كما يديرها من الضفة الغربية؟
الحجج والمبررات كلها غير مقبولة، بما في ذلك التذرع، بسوء الأوضاع في الضفة الغربية على خلفية الحملة الإسرائيلية العدوانية الشرسة، فالمسؤولون الفلسطينيون لا يرتاحون من السفر، إلاّ لتحضير حقائبهم استعداداً لسفر جديد.
قطاع غزة أيها السادة، لا يزال ينتظر الكثير، والكثير قليل جداً بل هو الحد الأدنى بمعايير الالتزام الوطني، وبمعايير الأولويات الوطنية المرتبة أساساً بانتزاع حقوقنا الوطنية، ودحر الاحتلال. القيادات السياسية هي وحدها المسؤولة، عن تناقص مشاعر الوطنية لدى الجمهور الفلسطيني الذي بات يطلب القليل، فيما تتراجع قناعاته واستعداداته للتضحية في سبيل القضية الوطنية التحررية.
إن كانت السياسة العامة للقيادات الفلسطينية، تستهدف ترويض الجمهور حتى يقبل، بأقل القليل من حقوقه، فإنها قد نجحت أيما نجاح، ولكن ليس إلى الحد الذي يجعلها تقبل بهذا القدر من التجاهل، وغياب المسؤولية الوطنية والاجتماعية، وليس إلى الحد الذي يجعلها تقبل المصالحة بمضامين وسلوكيات، تستظهر كل ما في مرحلة الانقسام من مساوئ.
اليوم وبعد المصالحة وتشكيل حكومة الوفاق، يعاني الناس أكثر فأكثر من الانقسام، بل ويتحسبون لأن تكون المرحلة القادمة أسوأ بكثير مما وقع خلال مرحلة الانقسام.
إذا راجعنا ببساطة المهمات المنوطة بحكومة الوفاق، لن نعثر على واحدة بدأت الحكومة بالاهتمام بها ومعالجتها، إذ كيف يمكن ذلك فيما هي غير موجودة على أرض الواقع في قطاع غزة؟
الحصار لا يزال قائماً وشديداً، فمواد البناء التي تشغل أكثر من سبعين مهنة لا تزال غير موجودة، ومعبر رفح مغلق بالكامل، إلاّ للمعتمرين، وأزمة الكهرباء لا تزال قائمة وكذلك أزمة الوقود، المجلس التشريعي على حاله، وعلى حاله، كل شيء، فيما الحوار متوقف. إذا كان من غير الواقعي أن نلمس تغييراً حقيقياً إزاء الأزمات التي يعاني منها المواطن منذ زمن، فإن من الواقعي جداً أن تقول لنا الحكومة، ماذا ستفعل ومتى سيأتي الفرج، وأن تقدم للناس مواقف مبدئية.