بقلم: إخلاص يوسف طمليه
كالجسد الواحد... يتوحد أهالي غزة في مواجهة العدوان ويجسدون أسمى صور التكافل والتضامن.
في مواجهة العدوان الاسرائيلي الوحشي وبرد الشتاء القارص يقف أهل غزة كالجسد الواحد إذا اشتكى أحدهم تداعى له سائر أهل الحي بكل ما يملكون من غذاء وكساء على قلته، ويعيش سكان قطاع غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة نصفهم من الأطفال ظروفاً هي الأقسى منذ فرض الحصار الإسرائيلي على القطاع قبل 17 عاما.
الأزمة الإنسانية كسلاح
في مواجهة ما تريد أن تصوره بأنه "خطرا وجوديا" عليها، تصمم اسرائيل على جعل فلسطين غير قابلة للعيش، حيث يواجه الفلسطينيون في قطاع غزة تهديدات وخطرا وجوديا منذ عملية طوفان الأقصى، ففرض الاحتلال حصاراً مطبقاً عليهم بعد إغلاق جميع المعابر الحدودية من قبل الاحتلال الإسرائيلي، فضلاً عن إغلاق معبر رفح وبوابة صلاح الدين مع مصر بالقوة العسكرية، من خلال القصف الذي طاول المعبر في الأيام الأولى للحرب مع غزة.
وانقطاع الطاقة الكهربائية مع توقف محطة توليد الكهرباء الوحيدة عن العمل بشكلٍ كامل نتيجة وقف إمدادات الوقود من الأراضي المصرية أو من الأراضي المحتلة عام 1948، إلى جانب قرار وزير أمن الاحتلال يوآف غالانت، بقوله "لقد أصدرت الأمر بفرض حصار كامل على قطاع غزة. لا كهرباء ولا طعام ولا غاز، كل شيء مغلق، نحن نقاتل حيوانات بشرية". هذا التصريح "المقزز" وفق تعبير منظمة هيومن رايتس ووتش يمثل "دعوة لارتكاب جرائم حرب" ولا يأتي من فراغ. في حين صرح وزير الطاقة الإسرائيلي يسرائيل كاتس، إنه "لن يتم تقديم أي مساعدات إنسانية أو موارد إلى قطاع غزة إلى أن تطلق حركة حماس الأشخاص الذين احتجزتهم في هجومها، ولن يتم تشغيل مفتاح كهربائي ولن يفتح صنبور مياه ولن تدخل شاحنة وقود حتى يعود المخطوفون الإسرائيليون إلى ديارهم ".
صار بالفعل شمال القطاع غير صالح لـلسكن، وليست الظروف أفضل فـي جنوبه المكتظ أصلاً، فقد زاد عدد سكان الجنوب بنسبة 150% تقريباً بين عشية وضحاها، فتحولت هذه المنطقة بأكملها إلى مخيم مترامي الأطراف للنازحين. ويتوزع النازحون على عديد المرافق جنوب قطاع غزة ووسطه، في المستشفيات والجامعات والنوادي والملاعب وصالات الأفراح، ومنازل الأقارب، ويتكدس أغلبهم في مدارس الأونروا؛ لضمان شيء من المساعدات الشحيحة التي تدخل من معبر رفح عبر مؤسسات الإغاثة الدولية.
كما أن الأعداد الكبيرة جدا للنازحين، جعلت المأساة تطال كل مكونات الحياة الأساسية، فالماء شحيح للغاية، والمستشفيات في النزع الأخير، أما الطعام فحدث ولا حرج، فالمخابز أغلقت أبوابها بالكامل لنفاد الغاز والوقود الذي يشغل آلاتها. وقد صرح المكتب الإعلامي الحكومي بغزة بأن الامدادات الغذائية التي كانت تصل غزة قبل بدء الحرب تصل إلى 600 شاحنة يومياً، ومنذ بدء الحرب لم تدخل حبة قمح واحدة. وجاء تساقط الأمطار مع الرياح القوية ليؤدي إلى غرق عدد من خيام النازحين بمناطق متفرقة من جنوب القطاع.
العقاب الكارثي "الأبوكاليبتي"
هذه الأساليب وغيرها من الإبادة الجماعية الصامتة مارسها الاحتلال الإسرائيلي منذ أكثر من نصف قرن على جميع الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، ففي الضفة الغربية يواجه 3.2 مليون فلسطيني تهديدات لا تقل "وجودية" في الضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية، حيث يعيشون وسط 750000 مستوطن إسرائيلي مسلح. بالإضافة إلى حوالي 1.8 مليون فلسطيني يعيشون في أراضي 1948، في حالة من الإحتماء في مدن معزولة ومنفصلة "غيتوهات" للعرب فقط، يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية.يمكن تحليل هذه الإبادة الجماعية لأهل القطاع على مستويين: أولاً يقوم جيش الاحتلال استخدام الأزمة الإنسانية كسلاح لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية. وثانياُ تحقق هذه الإبادة الجماعية للفلسطيني تحالف كبير بين قوى المعارضة والحكومة الإسرائيلية فالشيء الوحيد الذي يجمع الفرقاء في الاحتلال على نقطة التقاء واحدة هو قتل الفلسطيني وتهجيره، كما تلتقي حملة الإبادة هذه مع أهداف اليمين الديني القومي الإسرائيلي.
ويمكن أن يلخص الهدف الأكبر لحملة الإبادة الصامتة في حفر فكرة في الوعي الفلسطيني قائمة على العقاب الكارثي"الأبوكاليبتي" الذي سيواجه أي شخص يجرؤ من الآن فصاعداً على تحدي "دولة إسرائيل". هذا الامتداد للمفهوم الاستراتيجي المتجذر الذي يؤمن بأن المعاناة الإنسانية يمكن أن تفضي إلى مكاسب أمنية لإسرائيل، وهو المفهوم الذي يعتبر حصار غزة ضرورة لأمن إسرائيل لا غنى عنها.
مبادرات وحملات تطوعية
يسهم عطاء الناس وتكاتف أبناء المجتمع الغزي، في تخفيف الأعباء الكبيرة، فالمواطنون يتقاسمون الخبز وعبوات المياه وأشرطة الدواء، ولا يتفرد أحد بأملاكه، حتى بات كل ما يجلبه رب الأسرة لأبنائه مشاعا لأبناء الحمولة وللجيران، لا يحرم أحد أحدا من شيء.
وكعادتهم في الثبات والصمود والإيمان بحتمية الفرج القريب، يحاول الفلسطينيون النازحين، التمسك بخيوط حياتهم والأمل الكبير، رغم فقدان أدنى شروط العيش الكريم والمتطلبات الإنسانية.
ومع انعدام الموارد، تحرص المبادرات من النشطاء واللجان المحلية على طبخ كميات كبيرة من الطعام الفلسطيني الشعبي على الحطب وتوزيعه على النازحين، وفي حالات يجري تقديم وجبات من الرز والدجاج بتبرعات من الداخل والخارج.
ينشط عشرات المبادرين الشباب في قطاع غزة وخصوصا في مراكز الإيواء في توفير وتوزيع الماء والغذاء والأغطية، ومستلزمات الحياة الأساسية.
كما تتخصص بعض المبادرات في توفير الضرورات التي تحتاجها فئات خاصة من النازحين، كالمعاقين والأطفال الرضع، والنساء الحوامل، والمرضى، ويعملون عبر تبرعات يقدمها أفراد المجتمع نفسه.
ويحرص مبادرون على توفير احتياجات الشتاء من ملابس وأغطية لتأمين احتياجات النازحين الذين غادروا منازلهم دون أخذ ما يلزمهم فارين من القصف الناري والفسفوري.
ويقدّر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية تكلفة تلبية الاحتياجات الإنسانية 2.7 مليون شخص في غزة والضفة الغربية بنحو 2.1 مليار دولار.
الجمعيات الجزائرية "الوعد المفعول" في وجه الطغيان
تؤكد الجزائر، بلد المليون ونصف شهيد، يوما بعد يوم، التزامها بدعم القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني. ولأن الشعب الجزائري يعشق النضال والحرية، ولأنه يعي جيدا مساوئ الاستعمار الاستيطاني، فإنه يحب حبا فطريا كل من يناضل ويدافع عن شرف الأمة العربية والإسلامية، وعلى رأس أهل الجهاد والنضال الشعب الفلسطيني المقاوم، الذي أخذ على عاتقه قيادة الدفاع عن فلسطين عموما ومقدسات المسلمين فيها خصوصا، فتحول هذا الحب إلى دعم لا مشروط وعطاء لا محدود.
اذ أطلقت جمعية البركة الجزائرية حملة تطوعية تحمل اسم “الوعد المفعول” بالتزامن مع عملية “طوفان الأقصى”. وأعلنت عن افتتاح ثلاث مراكز إيواء جديدة بقطاع غزة. وتقدم المراكز جميع المتطلبات التي يحتاجها النازحون الذين زاد عددهم كثيرا، جراء تزايد العدوان على غزة.
وتقدم جمعية الإرشاد والإصلاح الجزائرية نموذجا يحتذى به بين الجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني الخيرية، وهي أقدم جمعيات العمل الخيري في الجزائر، والتي أطلقت حملة جمع تبرعات لصالح فلسطين، وخصصت الجمعية حساباً لتلقي المعونات المالية، التي سيجري في وقت لاحق صرفها لشراء المعدات والأدوية والمواد التموينية الضرورية من الحاجيات الأساسية للفلسطينيين، وتوصيلها عبر طرق مختلفة.
كما تهدف جمعية الارشاد والإصلاح إلى إسناد وتمويل عمليات فتح الطرقات مع الشركاء في غزة، على غرار الهيئة الدولية للإعمار في فلسطين التي هي شريك للجزائر لإنشاء البنى التحتية، ثم ستتم المساعدة في الإعمار من خلال ترميم وإعادة بناء المنازل والمساجد والمدارس، وكفالة الأيتام وأسر الأسرى والشهداء.
ما بعد الحرب؟
ان استمرت الهدنة وتحولت لوقف إطلاق نار فــإن مجرد فكرة "اليوم التالــي" فــي غزة لا يمكن تصورها، ومن المؤكد أن الوكالات الإنسانية ستواجه صعوبة في معرفة من أين يمكن أن تبدأ في مساعدة النازحين والمتضررين. إن توفير المأوى والغذاء والمياه والطبابة والكهرباء والمرافق الصحية، ناهيك عن معالجة الاضطرابات النفسية الجماعية، سيستلزم مستويات لا يمكن تحديد حجمها الآن، من الموارد والقدرات التنظيمية التي تتطلب تعبئة من الصفر، وتصل كلفتها إلى مليارات الدولارات. وحسب تقدير الأمم المتحدة فإن متطلبات الاستجابة الطارئة لأول شهرين تبلغ 600 مليون دولار شهريا، أي ما يزيد عن 7 مليارات دولار.