Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

بعد أن كسرت هيبة جيشها على عتباتها: آخر حروب "إسرائيل" على غزة.. حسين حجازي

بعد أن كسرت هيبة جيشها على عتباتها: آخر حروب

  يتحدث كلاوزفيتز عن الانتصار في الحرب، بأنه يتحدد في قدرة الجيوش على تحقيق الهدف الرئيسي من الحرب، وهو تدمير قدرة العدو على القتال والقضاء على قواته أي بفرض الاستسلام غير المنقوص وحتى المهين والتام على العدو.

لقد كان الجنرال البروسي الألماني الاصل الذي هزمت جيوش مملكة بلاده أمام نابليون، والتحق بجيوش الامبراطورية الروسية لمواصلة قتال نابليون والتصدي له، يتحدث عن تجارب الحروب التقليدية في التاريخ وآخرها الحروب النابليونية، وكانت هذه الحروب لا تزال تخاض بين جيوش مرتزقة تتواجه في أمكنة محددة على أطراف حدود الممالك، وكانت غالبا تنتهي بعد وقت قصير من تقهقر الجيش المهزوم، وبمراسيم احتفالية يقوم خلالها الملك المغلوب والتعيس بتسليم مفاتيح البلاد للملك الفاتح أو الغازي والمنتصر.

إن حروب هتلر في الحرب العالمية الثانية في عموم القارة الأوروبية، سوف تمثل الذروة أو الشهقة الأخيرة في هذا التاريخ القديم، حين كان على هذه الحروب أن تنتهي بتوقيع وثيقة الاستسلام، وانها هنا في واحدة من عربات القطار في "كامبين" تماما نفس العربة التي شهدت توقيع هذا الاتفاق المذل بعد هزيمة ألمانيا امام فرنسا في الحرب العالمية الأولى. لقد استبدل تسليم المفاتيح في القرون الماضية بتوقيع اتفاقيات الصلح المزيف أو الاستسلام، وإذ انتهت الحروب التقليدية القديمة التي تنتهي بالاستسلام الناجز والتام للجيوش المهزومة أمام الجيوش المنتصرة مع نهاية الحرب العالمية الثانية، باستسلام ألمانيا وتقسيمها والامبراطور الياباني والقضاء على الفاشية في ايطاليا واعدام موسوليني ومحاكمة القادة الألمان في نورنبرغ، فإن الحقبة التالية لهذه الحرب إنما يغلب عليها طابع الحروب المفتوحة والمتطاولة على محور الزمن، وبانتفاء هذه النهايات الخواتم الاحتفالية بتوقيع صكوك الانتصارات والهزائم، انها مزيج من الحروب الوحشية البربرية والحداثة التكنولوجية وعدم التناسق أو التكافؤ بين الجيوش المتحاربة.

إن حروب التحرر الوطني والاستقلال ونزع الاستعمار القديم هي ما يهيمن على هذه الحقبة من التاريخ، ولكن في الوقت نفسه استمرار النمط القديم من الحروب التوسعية والمغامرات الطائشة من لدن القوى العظمى الجديدة المتسيدة على العالم، الحرب التي خاضها الاتحاد السوفياتي العام 1979 لاحتلال افغانستان، والحروب الاميركية حول العالم على مدى نصف القرن الماضي، والتي انتهت جميعها الى الفشل وانهاك الولايات المتحدة الأميركية.

إن ما بعد الحروب الفروسية الرومانسية التقليدية بالسيوف والرماح والاقواس والخيول، تأتي مدافع نابليون ودبابات البازنر الألمانية والبوارج الحربية وسفن الإنزال وطائرات الماستير، لكن لأن كانت العلاقة وطيدة دوما بين تطور تكنولوجيا تقنيات الأسلحة وبين التكتيكات العسكرية، فإن ما يتراءى لنا اليوم بوضوح هو هذه الارتكاسة الشاذة في زماننا في العودة بهذه التكتيكات الى العصور المنحطة والهمجية، حين تبلغ تقنيات الأسلحة ووسائل التدمير أقصى حداثتها فيما يسمى بالأسلحة الذكية بالغة الدقة والتدمير، وتبدو العودة الى الهمجية في سفك الدماء كإغراء القتل الجماعي للمدنيين، هو التحول الشقي والمأساوي في هذه القصة.

لقد عجزت الأسلحة الذكية ولكن الأكثر فتكاً عن تحقيق النصر غير المشروط والاستسلام على الجيوش الصغيرة ولكن المسلحة بمبادئ العدالة والوطنية، والتي تخوض القتال دفاعاً عن أرضها وفوق تراب بلادها وبين أهليها. وإذ اصطدمت هذه الجيوش التي تملك ترسانات هائلة من أسلحة الدمار بالروح القتالية المبتكرة والمتجذرة، وعناد هذه الجيوش الصغيرة عن الاذعان والاستسلام أمام الغازي، فإن اللجوء الى استخدام القوة الغاشمة من طرف الغازي سوف يكون هو النتيجة الحاسمة، التي تغلب على هذه الحروب، حروب نزع الاستعمار في الجزائر وتونس وسورية وفيتنام ولبنان وفي غزة أخيراً.

لقد استبدلت المخططات الحربية والتكتيكات والمناورات العبقرية لقادة عسكريين لمعت أسماؤهم في سجل التاريخ، كالاسكند ويوليوس قيصر وخالد بن الوليد وعتبة بن نافع وطارق بن زياد وهاني بعل ونابليون ومونتغمري ورومل (..). بخطط وأفكار لقادة اقل ما يقال عنها انها افكار اجرامية تستعيض عن روح القتال المنازلة العسكرية، بخطط وافكار إجرامية مستمدة من طبيعة الجريمة ومجافية لقوانين الحرب، انهم قادة مجرمون يجسدون الوجه والأسلوب والشكل الجديد للبربرية القديمة في ثوبها الجديد.

وإذ يمتلكون قدرات هائلة على التجسس ومراقبة الشعوب المستهدفة استناداً الى التفوق التكنولوجي، وجيش مستتر من العملاء يؤلبون جزءاً من الشعب على الشعب، ويقومون في أثناء الاستراحات وهدنات القتال المقصودة بجمع المزيد من المعلومات عن المنازل والبيوت، التي تؤوي أناساً عاديين ضمن ما أصبح يطلق عليه بنك الأهداف. وحيث يستعاض عن ميادين القتال التقليدية بالأحياء السكنية والأبراج كما لاحظت أخيراً هذه المجموعة من ضباط وجنود المخابرات العسكرية الإسرائيلية، من الوحدة 8200. وأعلنت رفضها مواصلة الخدمة في هذا العمل القذر فإنه ينشأ عن كل ذلك معيار جديد للنصر والهزيمة في الحرب.

تصبح إسرائيل المتأخرة منتصرة في هذه الجولة الأخيرة من الحرب على غزة، بمقدار ما ألحقته من دمار في عدد البيوت والمصانع والمساجد والمدارس التي دمرتها، وأعداد المدنيين الذين قضوا بسبب ذلك. وليس بـ"تحطيم جيوش" مصر وسورية والأردن واحتلال سيناء والجولان والضفة في ستة ايام، وهذا هو مغزى التحول أو السقوط الأخير للجيش الإسرائيلي، واذا كان مقياس النصر الإسرائيلي هو بحجم الدمار الذي ألحق بغزة، فهل يصح هذا عنوانا لهزيمة الغزيين؟ والخلاصة ان المقاومة الغزية لم تدمر قدرة العدو على مواصلة القتال والحرب، ولكنها مست بقدرته النفسية والمعنوية والروحية في التفكير أو الإقدام على المغامرة في الحرب على غزة مرة أخرى، إنها آخر حروب إسرائيل على غزة ولعلها آخر مبادرات اسرائيل الهجومية، بعد ان استطاعت هذه المقاومة المتواضعة إفقاد هذا الجيش هيبته وكشفه عارياً وهذا هو قوام النصر الغزي بامتياز.