عامر خليل
توقفت معركة ثأر الأحرار بعد خمسة أيام من القتال بين المقاومة الفلسطينية بقيادة سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي والجيش الإسرائيلي في جولة ثالثة ترد فيها حركة الجهاد الإسلامي على عمليات اغتيال استهدفت قياداتها العسكرية والتي سبقها معركة صيحة الفجر عام 2019 ومعركة وحدة الساحات 2022 ومجرد كون الجهاد الإسلامي على رأس المعارك الثلاث ويخوض بمفرده جولات القتال يحمل العديد من الدلالات:
أولا: بات الجهاد الإسلامي النواة الصلبة للمقاومة الفلسطينية الذي يدخل في اعتباراته استمرار المشاغلة مع الاحتلال بعيدا عن تأويلات ومصالح السياسية ليضع الصراع في مساره الصحيح وينقله من حالة اللاسلم واللاحرب إلى حالة المواجهة في جولات قتالية متقطعة.
ثانيا: الجهاد الإسلامي ليس منغلقا عن مصالح الشعب الفلسطيني وشؤونه الحياتية وهو يدير معارك قصيرة مع الاحتلال مع قدرته على اطالتها مراعاة للأوضاع الحياتية التي يستخدمها الاحتلال ورقة ضغط من أجل وقف الجولات القتالية تماما كما استهداف البيوت والمدنيين لإشاعة الخوف والرعب بين الناس.
ثالثا: أضحى الجهاد الإسلامي صمام امان المقاومة الفلسطينية والحفاظ على مسار وخط القتال مع الاحتلال الذي يريد أن يجعل التسهيلات الاقتصادية ورقة اغراء لشراء الصمت وبقاء المقاومة في حالة تراكم قوة دائم دون المشاغلة فهو جمع بين المراكمة والمشاغلة دونما مواربة والتأكيد على استمرار المقاومة والجهاد قولا وفعلا.
رابعا: نقل الجهاد الإسلامي ساحة المواجهة إلى الضفة المحتلة وتمكن خلال العام 2022 و2023 من تشكيل كتائب فيها حملت اسم مدنها وباتت تسيطر على المشهد المقاوم وينضم إليها الشباب الفلسطينيون رغبة في مقارعة الاحتلال رغم عدم انتماء بعضهم للجهاد الإسلامي وانشأ حالة من التنسيق مع الكتائب الأخرى خاصة كتائب الأقصى وكانت عاملا أساسيا في استيلاد مجموعات أخرى مقاتلة بأسماء أخرى أخذت على عاتقها مشاغلة الاحتلال بما يعني ان الجهاد الإسلامي أفرز مقاومة شعبية شاملة في الضفة المحتلة لعب فيها الشهيد القائد طارق عز الدين دورا أساسيا وهو السبب الأساس وراء اغتياله في معركة ثأر الأحرار لتوجيهه ودعمه للمجموعات المقاتلة في الضفة المحتلة.
خامسا: عزز الجهاد الإسلامي من خلال خوضه الجولات القتالية والمشاغلة مع الاحتلال في الضفة المحتلة روح المقاومة في الشارع الفلسطيني والاحتضان الشعبي لها ووجد المقاومون في الحاضنة الشعبية داعما أساسيا لهم وفرت لهم الملجأ والحماية.
أضافت معركة ثأر الأحرار التي قادتها سرايا القدس ابعادا جديدة في مشاغلة الاحتلال وحملت في نتائجها الكثير من المؤشرات والمعطيات والعبر في سياق جولات القنال المتقطعة مع الاحتلال على أكثر من صعيد:
أولا: إدارة المعركة
1- لم تخلخل أو ترتبك غرفة التحكم والسيطرة لسرايا القدس رغم اغتيال ستة من قادتها العسكريين وحافظت منظومتها العسكرية على مستوى نيران منخفض الوتيرة لبعض الوقت آخر مرتفع في ساعات محددة في أيام القتال وليس على مدار الساعة.
2- كان الصمت لمدة 33 ساعة جزءا من إدارة المعركة والذي وضع الاحتلال في حالة الارباك والتساؤل ومحاولة فهم سبب ذلك، اذ لم يرد في تقدير المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أي مؤشر على هذا الاحتمال، وبذلك كسبت سرايا القدس جولة في الحرب النفسية جعلته يفكر في كيفية كسر الصمت، ليتفاجأ بانطلاق معركة ثأر الأحرار في الساعة الواحدة والنصف من ظهر اليوم التالي للمعركة وبنار مرتفعة ضربت تل ابيب منذ الساعة الأولى لها.
3- لوحظ ان غرفة العمليات في سرايا القدس اتبعت تكتيكا عسكريا بتركيز النار في نهار اليوم وساعات المساء ولم تخرج رشقات صاروخية خلال فترات الليل المتأخرة وهو ما وفر شكلا من الهدوء في الجبهة الداخلية الفلسطينية خلال الليل.
4- لم تصدر سرايا القدس بيانات تبني للعمليات التي نفذتها وتركت للغرفة المشتركة هذا الأمر وحافظت على روح الاجماع والوحدة حول المعركة.
5- لم تكن الصواريخ الأداة الوحيدة التي استخدمتها سرايا القدس في المعركة، فقد دكت مواقع الاحتلال على الحدود بقذائف الهاون وقصفت الدبابات أكثر من مرة بصواريخ مضادة للدبابات، وسيرت مسيرة انتحارية نحو موقع عسكري في ناحل عوز، وأطلقت نيران مضادة للطيران لأول مرة.
6- أطلقت سرايا القدس ما يقارب 1500 قذيفة صاروخية في خمسة أيام من القتال بمعدل 300 قذيفة في اليوم الواحد، وهو ما يشير إلى تطور كبير في صناعة القذائف والمخزون الكبير منها لدى سرايا القدس على مديات مختلفة، الأمر الذي جعل الصحافي المختص بالشأن الأمني في صحيفة هآرتس يوسي مليمان يصف حديث نتنياهو " قمنا بتغيير المعادلة" أمام الجهاد بالسخيف.
7- الحديث الإسرائيلي عن نجاحات كاملة للقبة الحديدية بات يشوبها شكوك كبيرة حتى بين الإسرائيليين في ضوء سقوط العديد منها على بيوت المستوطنين ما دفع جيش الاحتلال للحديث عن خلل حدث في بعض الأوقات، وكان تفعيل منظومة "مقلاع داوود"، " والعصا السحرية" مؤشرا على ذلك.
8- إعلاميا ادار الإعلام الحربي لسرايا القدس بإبداع كبير الحرب سواء بالفيديوهات او البيانات التي صدرها سريعا حول الشهداء بإعلان أسمائهم ومواقعهم ونبذة مختصرة عن حياتهم، بجانب الرسائل القصيرة التي صدرها باللغتين العربية والعبرية في سياق الحرب النفسية ضد العدو ورفع الروح المعنوية للحاضنة الشعبية، وتبدى حرص واضح على تعزيز هذه الحاضنة والالتفاف حول المقاومة بذكرها في بيانات سرايا القدس وكانت التكبيرات التي خرجت في الساعة التاسعة استجابة لنداء السرايا مؤشرا واضحا على ذلك.
ثانيا: الإدارة السياسية
1- أدركت قيادة حركة الجهاد الإسلامي مسبقا أن فتح القناة السياسية للمعركة لن يتأخر وهي استعدت لذلك مستمدة القوة من الأداء العسكري المميز لسرايا القدس والاحتضان الشعبي لها.
2- كون الجهاد الإسلامي العامود الفقري في معركة ثأر الأحرار كان من الطبيعي أن تتوجه كل القوى الإقليمية والدولية إليه بطلب إسرائيلي لوقف إطلاق النار والتي جاءت بعد الساعات الأولى من اغتيال القيادات الثلاثة لسرايا القدس خليل البهتيني وطارق عز الدين وجهاد غنام.
3- ادارت القيادة السياسية لحركة الجهاد الإسلامي مفاوضات شاقة ومعقدة مع الوسطاء وصدت كل الضغوط التي أرادت انهاء المعركة لصالح الاحتلال واصرت على بنود واضحة تتعلق بالاغتيالات وهو ما رفضه نتنياهو، ولم يتأثر هذا الموقف باستمرار الاغتيالات وارتقاء محمود غالي واحمد أبو دقة وإياد الحسني وكان رفع وتيرة النار بعدها تأكيد على الصمود في المعركة السياسية.
4- أربك هذه الصمود حسابات الاحتلال الذي لم يتوقع الأداء العسكري لسرايا القدس الجيد وقدر خاطئا ان الاغتيالات ستحدث في فوضى وارباكا في القيادة السياسية والعسكرية لحركة الجهاد، وكان الصمود السياسي انعكاسا للصمود العسكري.
5- يعكس مصطلح الصمود السياسي حجم الضغوط التي مارستها العديد من الأطراف الإقليمية والدولية على حركة الجهاد الإسلامي لوقف القتال في وقت مبكر وكان الإعلان اكثر من مرة عن مواعيد وهمية لوقف اطلاق النار مؤشرا على ذلك، وقد ولد هذا الصمود ضغطا على قيادة الاحتلال التي اوصت منظومتها الأمنية بالوقف الفوري للقتال لكنها لم تستطع ذلك، وحتى صيغة الهدوء يقابل بالهدوء فشلت في انهاء القتال وكان التدخل الأمريكي على خط وقف اطلاق دليلا على هذا الصمود والذي نصح نتنياهو بالتوصل لاتفاق مع الجهاد الإسلامي يؤدي إلى وقف القتال لأن استمراره يضر بالمصالح الأمريكية.
6- لا تخفى دلالة إدارة الجهاد الإسلامي مفاوضات إطلاق النار لوحده مع القاهرة والأطراف الأخرى دون أن تؤثر عليه ضغوط الميدان وكانت الصيغة الأخيرة في الإعلان المصري نتاج جهد طويل ومحصلة للعديد من الصياغات أصرت فيها حركة الجهاد الإسلامي على ان تتضمن وقف الاغتيالات وهو ما جاء في عبارة وقف استهداف الافراد مع ابداء الاحتلال عدم قبوله لصيغة وقف الاغتيالات لما قد تحمله من تداعيات على مستقبل حكومة نتنياهو.
7- أضحى الجهاد الإسلامي بعد معركة ثأر الأحرار عنوانا سياسيا مشرعا ومعروفا في كل العواصم وبين كل الشعوب وتعززت المكانة الدولية للجهاد الإسلامي، وبات ثقلا أساسيا في معادلة الصراع مع الاحتلال، وتجذرت مكانته بشكل أكبر في المشهد الفلسطيني.
ثالثا: جبهة العدو
1- أحدث الجهاد الإسلامي اختراقا سياسا في جبهة الكيان الإسرائيلي الذي احتار في كيفية التعامل معه فالتهديدات والاغتيالات لم تؤثر على مواقفه ولم تفرض عليه فك الارتباط بين ساحات المواجهة فنتنياهو خرج بعنوان وحيد في الاغتيالات هو تغيير المعادلة أمام غزة بما يعني منع الجهاد الإسلامي من الربط بين غزة والأسرى بعد رد السرايا على اغتيال الشهيد خضر عدنان في السجن والذي كان سببا في خروج الاحتلال بما اسماه " الدرع والرمح"
2- كانت المؤتمرات الصحفية لنتنياهو مع وزير حربه يوآف غالنت مرة أخرى بإضافة رئيس الشاباك رونين بار ورئيس الأركان هيرتسي هليفي مؤشر ضعف وليس قوة فهي امتلأت بمزيد من التهديدات بعد الاغتيال الأول لثلاثة من قيادات السرايا وكانت من جهة أخرى محاولة لطمأنة جمهور المستوطنين الذي غيرت صواريخ السرايا نظام حياته وأخرجته عن العمل على بعد 80 كيلومتر من قطاع غزة.
3- بدا شعار نتنياهو وغالنت بسحق الجهاد الإسلامي والقضاء عليه فارغ المضمون ومحل تساؤل في الأوساط السياسية والإعلامية الإسرائيلية، فكيف يكون صحيحا والجبهة الداخلية الإسرائيلية لم يتوقف سقوط الصواريخ عليها على مدى خمسة أيام حتى الثانية الأخيرة قبل اعلان وقف إطلاق النار والتي وصلت في الرشقة الأخيرة إلى مدن السهل الساحلي.
4- كان نتنياهو المعني الأول بوقف إطلاق النار والتصريحات التي صدرت عن مكتبه أكثر من مرة بوقف المفاوضات بعد الضربات التي وجهتها السرايا كانت كاذبة واسترضاء للمستوطنين الذي شككوا في قدرته على تحقيق اهداف العملية.
5- استطلاعات الرأي الإسرائيلية التي صدرت بعد المعركة أشارت لتحسن ما في الثقة بنتنياهو انعكاسا لعملية الاغتيالات إلا أن يوفال ديسكين رئيس الشاباك السابق ذكر في مقال نشره على موقع القناة "١٢" بتاريخ 14-5-23عن تأثير عملية الاغتيال على الاستطلاعات أنه رغم ان السياسيين في "إسرائيل" يفضلون عمليات الاغتيال، لتحسين صورتهم أمام الجمهور إلا أنه يؤكد ان عمليات الاغتيال ذات مفعول لحظي على مستوى الأمن، بمعنى تمنع عمل محدد منوي القيام به من قبل المقاومة، ولا تأثيرات استراتيجية لها في مواجهة المقاومة، فيما يلاحظ أن تراجع حزب الليكود لا زال قائما (25 مقعدا) ويتقدم عليه حزب ازرق ابيض بقيادة بني غانتس(30 كقعدا)، فيما كان لافتا في استطلاع معاريف انه رغم مؤتمرات نتنياهو الصحفية لتعزيز الجبهة الداخلية وإبراز إنجازات عمليات الجيش أن 32% من الإسرائيليين اعتبروا أن الكيان انتصر في المعركة و12% رأوا أن الجهاد الإسلامي هو المنتصر بينما قال 55% ان أحدا لم ينتصر.
في الخلاصة الأداء السياسي والعسكري لحركة الجهاد الإسلامي شهد تطورا ملحوظا في معركة ثأر الأحرار راكمت فيه الخبرة السياسية والعسكرية من الجولات القتالية السابقة، وان يقف الكيان الإسرائيلي على رجل واحدة ويستجدي من كل الأطراف التدخل لوقف إطلاق النار شهادة فخز وعز وانتصار معنوي مهم لهذه الحركة التي أخذت على عاتقها إدامة جذوة الصراع مشتعلة.