يشعر نتنياهو اليوم بخيبة أمل لأن "الجيش" يدفع باتجاه صفقة لتبادل أسرى وإنهاء الحرب حتى لو بثمن بقاء حماس في السلطة، فهل تجرّه مواقف المؤسسة العسكرية المنقلبة عليه وعلى سرديته من الحرب، إلى قبول الصفقة ووقف الحرب مُكرهاً؟
لافتاً كان التقرير الذي انفردت به صحيفة "نيويورك تايمز" حول اتساع الخلافات بين المستويين العسكري والسياسي الإسرائيليين. فقد تحدثت الصحيفة عن رغبة "الجيش" الإسرائيلي في التوصّل إلى وقف لإطلاق النار حتى لو بقيت حماس في السلطة في الوقت الحالي. ووفق الصحيفة، فإن مبرّرات "الجيش" هي نقص التسليح وانعدام الحافز، والخوف من صراع واسع النطاق مع حزب الله في الشمال.
فالقيادة العسكرية "تخشى حرباً مفتوحة، وترى أنه من غير الممكن تحقيق هزيمة حماس وعودة الأسرى في الوقت ذاته". يعكس موقف كبار المسؤولين في "جيش" الاحتلال اتساعاً في هوة الخلاف بينهم وبين نتنياهو، الذي يرفض بشكل قاطع إنهاء الحرب. وتُبيّن الخلافات كيف اختلط صراع ذو أبعاد شخصية بإدارة الحرب، التي يسعى نتنياهو في إطارها إلى النأي بنفسه عن فشل الـ 7 من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وتحويل نار الاتهامات نحو المؤسسة الأمنية.
وفي الجهة الأخرى فإن نتنياهو وزمرته مقتنعون بأن المؤسسة الأمنية و"الجيش" الإسرائيلي حصراً، يسعى لنفي المسؤولية عن نفسه، بل هو متورّط، وفق نتنياهو، في تسريبات تهدف إلى إلقاء مسؤولية الفشل على كاهل المستوى السياسي، ومحاولة فعل كل شيء ليزيل هذه الوصمة عن جنوده وقادته.
والواقع أن المُتتبّع لتحوّلات مواقف المؤسسة العسكرية "المتراجعة" من الحرب يستطيع الإشارة الى أربع محطات حكمت علاقة المستويين السياسي والعسكري الإسرائيليين على امتداد شهور هذه الحرب التسعة:
المحطة الأولى، في الأيام القليلة الأولى من الحرب، والتي اتسمت بالتماهي شبه الكامل مع المستوى السياسي في الموقف من الحرب وإمكان تحقيق أهدافها التي وضعها المستوى السياسي. ووفق مصادر إسرائيلية "فإن النقاشات جرت في بداية الحرب بمنتهى الجدية، وكان كل شيء يُدار "وفق الأصول" بحذر وبطريقة واقعية للغاية"، "لقد استمعوا إلى الجيش، وتركوا الضباط يتحدثون، وساد شعور حقيقي بالمصير المشترك، وبأننا نقاتل الآن من أجل الوطن".
في بداية الحرب، ووفق مسؤول في "الجيش"، "جلس غالانت وهيرتسي هليفي ونتنياهو معاً وقالوا إن العلاقة بينهم هي التي ستحدّد نجاح الحرب، ورأى غالانت أن هذه روح إيجابية للغاية واعتقد بقوة أن الوقت قد حان لتشابك الأيدي". لكن تصريح نتنياهو بعد ثلاثة أسابيع من بدء الحرب، في 28 تشرين الأول/أكتوبر، عندما غرّد في الساعات الأولى من الليل قائلاً: "خلافاً للادعاءات الكاذبة لم يتمّ تحذير رئيس الوزراء نتنياهو في أي مرحلة حول نوايا الحرب من جانب حماس"، دفعت غالانت إلى الذعر، وأدرك أن نتنياهو لا ينوي التعاون مع "الجيش".
المحطة الثانية، والتي اتسمت ببدء التشكيك في إمكانية تحقيق أهداف الحرب وفق ما حدّدها المستوى السياسي. ووفق مصادر "جيش" الاحتلال، ظن "الجيش" مع الشهور الأولى للحرب، أنه يمكن تحقيق هدفي الحرب الرئيسيين اللذين وضعهما المستوى السياسي، في الوقت نفسه؛ أي هزيمة المقاومة واستعادة الأسرى. لكن هذا الاستنتاج بدأت تشوبه الشكوك لدى القيادة العسكرية العليا التي توصّلت لاحقاً إلى استنتاج مفاده أنّ كلا الأمرين لا يمكن تحقيقهما معاً.
المحطة الثالثة، تمثّلت في الرسالة التي بعثتها قيادة "الجيش" إلى المستوى السياسي مطالبة "بعدم التخوّف من إنهاء الحرب من أجل استعادة المختطفين". إذ يعتقد كبار مسؤولي "جيش" الاحتلال، بحسب ما جاء في تقرير صحيفة "نيويورك تايمز"، "أن وقف إطلاق النار سيكون أفضل وسيلة لتحرير 120 مختطفاً ما زالوا في الأسر، أحياء وأمواتاً".
أما محطة التحوّل الرابعة، فهي موقف "الجيش" الذي ورد في تقرير "نيويورك تايمز" والداعي إلى إمكان وقف الحرب والإفراج عن الأسرى ولو بثمن بقاء حماس في السلطة، إذ يبدو لكبار ضباط "جيش" الاحتلال أن إبقاء حماس في السلطة في الوقت الحاضر مقابل استعادة الأسرى هو الخيار الأقل سوءاً بالنسبة لـ "إسرائيل". يمكن، بالتأكيد، العثور على تلميحات عن الإحباط في "الجيش" في تصريحات بعض كبار مسؤوليه، مثل المتحدث باسمه العميد دانييل هاغاري الذي قال "بأن حماس فكرة ولا يمكن تدميرها وأن الحديث عن القضاء على حماس، هو ذر للرماد في عيون الجمهور".
كما أن رئيس الأركان هاليفي سُمع مؤخّراً وهو يحاول تأكيد نجاحات "الجيش" الإسرائيلي في الحرب في غزة، والتي رأى فيها العديد من المتابعين في الأوساط الإسرائيلية محاولة لخلق مبرّر لإنهاء الحرب بطريقة مُشرّفة. الأمر ذاته ذهب إليه الصحافي الإسرائيلي اليؤور ليفي الذي استنتج أن "الجيش الإسرائيلي يبالغ في روايته عن تفكيك وتدمير كتائب حماس في رفح، رغم إعلانه أنه يقترب من إعلان هزيمة الحركة فيها؛ في الواقع الكتائب لم يتمّ تفكيكها وكفاءتها ما زالت حاضرة".
ورغم أن "جيش" الاحتلال برّر هذا التراجع في موقفه من الحرب بتقدير كبار قادته بأن "قواتهم تحتاج إلى وقت كافٍ للتعافي والتزوّد بالذخائر في حال اندلاع حربٍ مع حزب الله، كما أن وقف إطلاق النار مع حماس قد يسهّل التوصّل إلى اتفاقٍ ما في الشمال"، إلا أن واقع الأمر يشير إلى أن اتساع حدة الشرخ بين "الجيش" ونتنياهو وحكومته عائد إلى الأسباب الآتية:
الأول، هو الحرب الطاحنة التي يشنّها اليمين المتطرّف لسحق المؤسسة العسكرية وقيادتها ونزع الشرعية وهالة القداسة التي ظلت تحيط بها في المجتمع الإسرائيلي، وذلك كمقدّمة لإحكام السيطرة على "الجيش" ومنعه من معارضة أجندة اليمن ونزواته تجاه الداخل الإسرائيلي وتجاه الفلسطينيين، ومنعه كذلك من معارضة فكرة إعادة احتلال القطاع واستيطانه التي يطرحها اليمين القومي المتطرف في حكومة نتنياهو.
زد على ذلك رغبة المستوى السياسي في تحميل "الجيش" مسؤولية الفشل في التنبّؤ بأحداث السابع من أكتوبر ومنعها، وتحميله مسؤولية فشل حسم المعركة مع المقاومة حتى اللحظة. هذا الصراع، فيما يتعلق بدرجة المسؤولية عن الفشل وطريقة إدارة الحرب، امتد منذ فترة طويلة خارج الغرف المغلقة في مجلس وزراء الاحتلال، حتى تغلغل في الميدان وبلغ ذروته، عندما نشر جندي الاحتياط والناشط في حزب الليكود أوفير لوزون شريط فيديو يهدّد فيه بتمرّد في "الجيش" الإسرائيلي ضدّ "الجيش" ووزير الحرب غالانت، متعهّداً بالانصياع "لرئيس الوزراء فقط".
السبب الثاني، هو قناعة المستوى العسكري أنه يخوض حرب مراوحة لا طائل منها، وبأنه يُضحّى به ويُقدّم ككبش فداء لمصلحة استدامة حكم نتنياهو واليمين المتطرف، حيث يدفع الأثمان الأكثر تكلفة في هذه الحرب من ضباطه وجنوده وعتاده. وقد أشارت صحيفة "التايمز" في تقريرها إلى "العبء المتزايد على جنود الاحتياط، الذين تم بالفعل استدعاء بعضهم للمرة الثالثة للخدمة، وأن هناك الآن عدداً أقل من جنود الاحتياط الذين يستجيبون لدعوات الالتحاق بـ "الجيش"، وأنّ هناك أيضاً "أزمة ثقة" بين الضباط والقيادة العسكرية.
قناة كان العبرية أشارت هي الأخرى قبل يومين إلى "أن قادة الفرق الأربع التي تقاتل في قطاع غزة أكدوا لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ضرورة الأخذ في الاعتبار أن حالة من الإرهاق والإحباط بدأت تظهر على جنود الجيش بعد تسعة شهور من الحرب".
السبب الثالث، والأهم، أن قيادة "الجيش" ترى أنها الأقدر على تقدير طبيعة واقع القتال كما هو بعيداً عن شعارات نتنياهو الشعبوية وأهدافه الهُلامية التي يستمر في بثّها للشارع الإسرائيلي. وكأن "جيش" الاحتلال يريد الإقرار بفشله في الحرب دون الإعلان عن ذلك صراحة.
فموقف المؤسسة العسكرية القائل اليوم بإمكان وقف الحرب ولو بثمن بقاء حماس في السلطة، هو اعتراف صريح، على ألسنة الذين يخوضون المواجهة مع المقاومة ويدركون حقيقة الميدان، بتعذّر القضاء على المقاومة في الجانب العسكري، أو إنهائها كمنظومة تحكّم وسيطرة في القطاع بعد تسعة أشهر من الحرب الطاحنة التي تشنّها "إسرائيل" بكل ما أوتيت من قوة على القطاع، وهو نسف كامل لسردية الحرب التي ما زال نتنياهو يلوّح بها.
ولعل ما نقله بعض المقرّبين من نتنياهو، من أنه يستعين بمستشارين عسكريين من خارج دائرة "الجيش" ووزارة حرب الاحتلال لتزويده ببدائل لتوصيات المؤسستين الأمنية والعسكرية، ما يشي بعمق أزمة الثقة القائمة بين الطرفين. وهؤلاء المستشارون، وفق المصدر، في غالبيتهم على الجانب الأيمن من الخريطة السياسية.
والأهم من ذلك أن موقفهم تجاه قضية "اليوم التالي" للحرب وقضية صفقة الأسرى، هو إلى حد كبير مخالف لنهج "الجيش" الإسرائيلي، بل إنهم أي هؤلاء المستشارين يعرضون على نتنياهو نهجاً أكثر عدوانية وتشدّداً مما هو معتاد في "الجيش" الإسرائيلي فيما يخص قطاع غزة، حيث أوضحوا له أنه "من أجل استبدال حكم حماس لن يكون هناك مفر من فترة من "الفوضى المؤقتة" في القطاع، وبعدها فقط تنهار حماس ونخلق بديلاً عنها لحكم القطاع".
كما أنهم نصحوا نتنياهو بعدم الموافقة على اتفاق مع حماس يتضمّن مطلب وقف الحرب. وهذا يفسّر واحداً من أسباب عدم تبنّي نتنياهو لبعض توصيات "الجيش"، حيث الشكّ والعداء والجفاء هو سيد الموقف في العلاقة بين كل أولئك الذين يديرون الحرب، وهي الهوة القائمة ذاتها أيضاً بين نتنياهو ووزير حربه، غالانت، إذ نادراً ما التقيا وجهاً لوجه على مدار أشهر.
وفي المحصّلة يخوض نتنياهو هذه الحرب ويجد نفسه اليوم وحيداً معزولاً إلى حد كبير في رأس النظام السياسي، محروماً من الخبراء العسكريين والأمنيين، فلا "الجيش" ولا وزير دفاعه يتفقان معه في وجهة نظره من الحرب، وهذه العلاقة الغامضة المتناقضة بين نتنياهو والمؤسسة الأمنية تمثّل التحدي الأكبر الذي يواجهه في إدارة الحرب.
يشعر نتنياهو اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بخيبة أمل لأن "الجيش" يدفع باتجاه صفقة لتبادل أسرى وإنهاء الحرب علانية حتى لو بثمن بقاء حماس في السلطة، فهل تجرّه مواقف المؤسسة العسكرية المنقلبة عليه وعلى سرديته من الحرب، إلى قبول الصفقة ووقف الحرب مُكرهاً، أم أننا سنشهد مزيداً من تعمّق الصراع بين الطرفين بحيث يتسع الفتق على الراتق.