الأزمة الفكرية التي تعاني منها الحركات الأيديولوجية هو إيمانها اليقيني بامتلاكها الحقيقة المطلقة، لأنها تأخذها من مصدر معصوم من الخطأ، هذا المصدر المعصوم قد يكون الكتاب المقدس كالقرآن الكريم أو الأنجيل أو التوراة، وقد يكون الزعيم المُلهم أو القائد العبقري أو النخبة المميزة. وخطورة ذلك بأنه يجعل الجماعة على يقين راسخ بأنها تُمثل الحق والصواب والخير، بينما غيرها يمثل الباطل والخطأ والشر، وهذا يجعلها تؤمن بأنها الفرقة الناجية الوحيدة، أو شعب الله المختار، أو خلاصة الخير البشري، وهذا ينطبق على الحركات الإسلامية المتطرفة وغيرها من الحركات العقائدية المتطرفة سواء كانت سماوية كالنصرانية واليهودية أو غير سماوية كالشيوعية والنازية. وهذا أصل تكفير الآخرين ومن ثم استباحة دمائهم، وإزهاق أرواحهم، وانتهاك أعراضهم، واغتصاب أموالهم.
ونتيجة لإدراك عمق هذه الأزمة الفكرية، فقد كُتبت الوثيقة الفكرية لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين الصادرة عام 2018 تحت عنوان (الأسس والمفاهيم الإسلامية) التي كتبها أمينها العام السابق الدكتور رمضان عبدالله شلح، وجاءت الوثيقة معبرة عن فهم مختلف يُعالج هذا الجانب من الفكر الديني الذي قد يقود إلى إلغاء الآخر أو تكفيره، لذلك فقد جاء في مقدمة الوثيقة الفكرية "لا تزعم الحركة أن هذه الوثيقة تُعبر عن الحقيقة النهائية أو خاتمة فهمها للإسلام، بل هي اجتهاد متواضع في زمن الصراع على الإسلام، للإجابة على سؤال: أي إسلام؟ ولأي عالم؟ إنها تمثل الإطار العام الذي يحدد ملامح الهوية الإسلامية لحركة الجهاد، والمنطلقات العقدية والفكرية التي تحكم مواقفها من كثير من القضايا المطروحة في شتى المجالات". فما ورد في الوثيقة ليس أكثر من اجتهاد بشري متواضع يقبل الصواب والخطأ، ولا يمثل الحقيقة المُطلقة.
وتأكيداً لهذا الفهم جاء في أحد بنود الوثيقة "الفكر الإسلامي ليس هو الإسلام، فالإسلام هو الوحي الإلهي، في كتاب الله، والسنة النبوية الصحيحة، والفكر الإسلامي هو فهم علماء المسلمين للإسلام واجتهاداتهم وآرائهم فيما لا نص فيه، أي أنه فكر إنساني في دائرة الإسلام ، يؤخذ منه ويُترك.". وهذه التفرّقة بين الإسلام والفكر الإسلامي مهمة وضرورية لمواجهة أسس الفكر التكفيري، فما يفهمه العقل البشري من القرآن والسنة كنصوص دينية للإسلام، ليست هي الإسلام بل فهمنا للإسلام وهو فكر إسلامي يقترب أو يبتعد عن أصل النص الديني، وبالتالي لا يجوز إضفاء طابع القداسة على الفكر الإسلامي وإعطائه صفة اليقين المطلق والصواب الكامل، كما نُعطي للنص الديني الصحيح القطعي. وهذه الرؤية تفتح الباب أمام الفكر الوسطي المعتدل المتسامح، وتغلق الباب أمام الفكر الإقصائي لمن يرى بأن فكره هو الإسلام نفسه لا يجوز مخالفته وليس اجتهاداً في دائرة الإسلام.
هذا الفهم الواضح للفرق بين الإسلام والفكر الإسلامي، ينسحب على رؤية الوثيقة الفكرية للتراث الواردة في أحد بنودها "التراث هو ما تركه السلف للخلف. وما عدا الوحي، فهو ليس معصوماً أو غير قابل للنقد، والموقف المتوازن منه ليس تقديسه، ولا الانسلاخ عنه ورفضه، بل هو العمل على تنقيته والانتفاع بكل صالح فيه، بما يسهم في الارتقاء بحاضر الأمة، ويحقق استمرارايتها التاريخية والحضارية". هذه الرؤية للتراث تُخلّص العقل الإسلامي من تراث ثقيل ساهم بعضه في تغذية ثقافة الفتنة وإراقة الدماء بين المسلمين، فإذا كان التراث هو تفاعل العقل مع النص، انتج اجتهادات فقهية وفكرية سياسية وغيرها، وبما أنها اجتهادات بشرية ففيها الصواب والخطأ، فهي ليست مُقدسة، فلماذا يُقدم البعض هذه الاجتهادات على النص، أو يجعلها مساوية للنص الديني ؟!، ومنها فتاوي علماء اشتهروا بسرعة إطلاق فتاوي التكفير والتقتيل. ولذلك جاءت الوثيقة لتضع النقاط على الحروف بعدم الانسلاخ عن التراث أو تقديسه، بل الانتفاع بالصالح والمفيد منه.
وتلك الرؤية نجدها في بند الوثيقة الذي يتحدث عن دور الحركات الإسلامية " العمل لإحياء دور الإسلام في الحياة واجب شرعي، ولا يحق لأي جماعة أو حركة إسلامية تسعى لتحقيق هذا الهدف، الزعم بأنها جماعة المسلمين، بل هي جزء أو جماعة من المسلمين، فيها الصواب والخطأ...". فالوثيقة تتحدث عن إحياء دور الإسلام في الحياة، وليس إحياء الإسلام، فالهدف هو تفعيل وتقوية دور الإسلام في مجتمع مسلم، وليس إحياء الإسلام في مجتمع (جاهلي)، كما في رؤية المتطرفين. وهذا واضح أكثر في رفض الوثيقة زعم بعض الحركات المتطرفة بأنها (جماعة المسلمين)، والأصل أنها (جماعة من المسلمين)، فالفرق بينهما كبير فالزعم بأنها جماعة المسلمين يعني إخراج ما عداهم من المسلمين من دائرة الإسلام وتكفيرهم على اعتبار أنهم (الفرقة الناجية) الوحيدة، وهذا من أصول التكفير ومبررات العنف والتقتيل. والأصل أن جميع الحركات الإسلامية هي جماعة من المسلمين في المجتمع المسلم والأمة الإسلامية.
والوثيقة تتحدث في بنود أُخرى عن رؤيتها الوسطة في إطار الفكر الديني المعتدل، واحترامها للتعددية الدينية والعرقية واللغوية والثقافية والسياسية، ورفض العنف والارهاب والتكفير، وأهمية الاجتهاد والتجديد، وربما كان من أهم أهداف التجديد في الفكر الديني هو تنقية التراث الإسلامي من التطرف بكافة أشكاله المنتج للإرهاب الدموي الذي يضر بالأمة الاسلامية ويفرّقها ويقسمها، ويجزّء الشعب الواحد ويشتته، ويفكك الوطن الواحد ويدمره، مع أهمية رفض محاولات الخلط بين الجهاد والارهاب، فالجهاد هي كلمة السر التي تحيي الأمة وتجدد حياتها، وتحرر الانسان والأوطان، والجهاد والمقاومة هي خيار وقدر الشعوب الحرةلانتزاع حقوقها وتحرير أوطانها ونيل حريتها.
خُلاصة هذه القراءة في الوثيقة الفكرية للجهاد الإسلامي أنها حركة مقاومة فلسطينية الإسلام مرجعها وتحرير فلسطين من الكيان الصهيوني هدفها والجهاد سبيلها فهي حركة وطنية بمرجعية إسلامية ترفض ثقافة التكفير من خلال وثيقتها الفكرية وكل أدبياتها المنشورة منذ انطلاقتها قبل عقود من الزمن.