بقلم: منير شفيق
عقد مركز "مسارات" بدعوة من "التحالف الشعبي للتغيير" لقاء ضمّ 40 مدعواً، وحدّد هدفه: "الخروج من المأزق الراهن"، فكان لا بدّ من قراءة بيانه للبحث عما تمخض عنه.
اعتبر أن أهم التحديّات التي تواجه الأزمة الراهنة هي "إنهاء الانقسام، وتعزيز الحريّات، وإشاعة الحياة الديمقراطية". ولم يخطر ببال المشاركين أن يعتبروا الاحتلال، أو وجود الكيان الصهيوني في فلسطين، وما أحدثه من نكبة ويُحدثه من نكبات، هو التحدي الأول الذي يواجه الشعب الفلسطيني.
ولم يخطر بالبال أيضاً أن يتناول اللقاء ما تعرّض له الشيخ جراح من اقتلاع، وباب العامود من إحكام سيطرة صهيونية، وما واجهه المسجد الأقصى من اعتداءات وانتهاكات، وما أدت إليه مواجهة كل ذلك عام 2021 (وهو عام ليس ببعيد)، من انتفاضات شملت أيضاً مناطق الـ48، وأطلقت حرب سيف القدس، ومن ثم أدخلت الصراع في مرحلة جديدة، سرعان ما تلقفتها الأشهر الأولى من عام 2022، بست عمليات عسكرية في بئر السبع، وحيّ بني براك، وشارع دوزنكوف (تل أبيب)، وبيت إيل وإلعال، كما المعارك التي تشبه حرب الشوارع بين المصلين وقوات الاحتلال في باحات المسجد الأقصى؛ وقد أسفرت في شهر رمضان المبارك الفائت عن تراجعات مهمة أقدم عليها العدو.
وتلا كل ذلك بروز السلاح بيد المقاومين إلى العلن في مخيم جنين، وما تبعه من محاولات اقتحام فشلت في السيطرة على المخيم، والذي ما زال مُشهراً سلاحه، مُثبتاً ظاهرة لها ما بعدها، وذلك لمن يدرك معناها ومبناها. ولم يتوقف اللقاء بفقرة واحدة أمام هذه الظاهرة في جنين، ولا ما حملته من أبعاد استشهاد شيرين أبو عاقلة.
*البحث عن جواب للأزمة، فيتمثل في العصا السحرية التي تُخرج "الزير من البير"، وهي الانتخابات، ثم الانتخابات، ثم الانتخابات هي التي تخرج الوضع من الأزمة*
هذا كله لم يُذْكر في تناول التحديّات، أمام خطورة "تحدي" إنهاء الانقسام، وتعزيز الحريّات، وإشاعة خيار الديمقراطية. أما البحث عن جواب للأزمة، فيتمثل في العصا السحرية التي تُخرج "الزير من البير"، وهي الانتخابات، ثم الانتخابات، ثم الانتخابات هي التي تخرج الوضع من الأزمة.
بكلمة، اللقاء تجاهل التحدي الأهم والأخطر، والذي يشكل التحدي رقم1، وهو الاحتلال ووجود الكيان الصهيوني، وتجاهل عن قصد أو عن غير قصد، التحدي الذي شكّله الاحتلال والمستوطنون للشيخ جراح، وباب العامود، والمسجد الأقصى، والقدس، وما عبّرت عنه الانتفاضات، وحرب سيف القدس عام 2021، وما حملته النتائج للأشهر الأولى من سنة 2022، من عمليات عسكرية، ومواجهات شعبية، واقتحامات لمخيم جنين.
ولهذا لم يرَ اللقاء المذكور أمامه من تحدٍّ غير الانقسام الذي تجاوزته الأحداث، وأصبحت محاولة إنهائه منذ 2007 حتى اليوم مثل الذي يخضّ الماء ليستخرج منه زبدة. ثم لم يجد اللقاء أمامه من حلٍّ غير تكرار إجراء انتخابات، لانتخاب قيادة فلسطينية جديدة: "انتخاب الشعب الفلسطيني لمن يمثله ومن يقود نضاله".
هل يعقل أن نخبة بوزن الأربعين مشاركاً، لم يلحظوا أن ما من حركة تحرّر وطني تشكلت قيادتها من خلال انتخابات تحت الاحتلال؟ فقياداتها تشكلت من خلال كفاح وطني مرير لعشرات السنين، عرفت فيه السجون والاغتيالات، والمعارك العسكرية، أو معارك الشوارع، وأثبتت جدارتها في ميدان النضال لقيادة الشعب، ونالت الشرعية من تأييدها للمقاومة، وانخراطها فيها مع فصائلها وقياداتها.
*هل يعقل ألاّ يتنبّه اللقاء إلى أن إجراء انتخابات عامة لاختيار القيادة المنشودة لا يكون إلاّ بموافقة السلطة المنبثقة من اتفاقات أوسلو، وإشرافها؟ وهذا يجعل الانتخابات مهزوزة، مطعوناً بها، وجزئية لا تشمل كل الشعب الفلسطيني*
ثم هل يعقل ألاّ يتنبّه اللقاء إلى أن إجراء انتخابات عامة لاختيار القيادة المنشودة لا يكون إلاّ بموافقة السلطة المنبثقة من اتفاقات أوسلو، وإشرافها؟ وهذا يجعل الانتخابات مهزوزة، مطعوناً بها، وجزئية لا تشمل كل الشعب الفلسطيني، كما حدث بتجربة انتخابات ما بعد اتفاقات أوسلو التي أنتجت السلطة؛ التي يريد اللقاء "تغييرها"، وبأسلوب الانتخابات فقط لا غير؛ لأن اللقاء حريص ألاّ يحدث "التغيير" إلاّ من خلال الانتخابات، والانتخابات وحدها، وإلى أن يتحقق ذلك ليس ثمة من "نضال" غير "النضال" للضغط من أجل إجراء انتخابات.
حقاً هذا مستوى من التفكير لم يسبق له من مثيل في الساحة الفلسطينية منذ مائة عام إلى اليوم: الطريق المطلوب للخروج من "الأزمة" هو الانتخابات، ولا قيادة يعترف بها إلاّ التي تأتي من الانتخابات. وليس ثمة من مهمة أمام الشعب الفلسطيني غير الضغط، ومواصلة الضغوط، حتى لو كانت فاشلة (بمعنى لم تفرض الانتخابات) من أجل فرض الانتخابات. هذا ولا يوافق اللقاء على انتخابات موازية للسلطة، لأنها تؤدي إلى ما يشبه العنف، وإلى انقسام جديد. طبعاً لم ترد عدم الموافقة هذه في البيان، ولكن تُفهَم منه.
واعتبر اللقاء أن ثمة شبه إجماع من قِبَل الشعب الفلسطيني يطالب بإجراء انتخابات، أي مطالبة اللقاء بالانتخابات ليست مطالبة من قِبَل نخبة من الفلسطينيين، وإنما مطالبة تعبّر عن شبه إجماع شعبي.
حسناً، هل سمع أحد عندما توحدّ الشعب الفلسطيني، في كل مناطق تواجده، داخل فلسطين وخارجها في معارك 2021 (الانتفاضات وحرب سيف القدس) صوتاً واحداً في الشارع رفع شعار المطالبة بالانتخابات، أم راحت أصوات الشعب الفلسطيني، بشبه إجماع، تدعم ما يجري من مواجهات في حرب سيف القدس، وهكذا فعلت التظاهرات التي حدثت في عواصم الغرب في ظل انهمار الصواريخ على تل أبيب؟
باختصار، إن بيان لقاء مركز مسارات والمشاركين فيه؛ في واد والشعب الفلسطيني والرأي العام العربي والإسلامي والعالمي في وادٍ آخر.
*ضمانات بأن لا تعيد الانتخابات إفراز النظام القائم، أو إفراز نظام يفضي إلى التقاسم بين الحركتين فتح وحماس؛ الأمر الذي يوجب بنظر اللقاء تأمين هذه الضمانات بأن "يتشكل جسم أو إطار أو جبهة وطنية عريضة، تحمل هموم هذا الوطن، وتقود عملية التغيير من خلال الانتخابات"*
على أن اللقاء راح يستدرك مشكلة مع استراتيجية الانتخابات التي طرحها؛ ليس من خلال ما ذكر من ملحوظات أعلاه، وإنما من الخوف من انتخابات لا تقود نتائجها إلى إحداث تغيير. لهذا يطالب اللقاء بأن تتوفر ضمانات بأن لا تعيد الانتخابات إفراز النظام القائم، أو إفراز نظام يفضي إلى التقاسم بين الحركتين فتح وحماس؛ الأمر الذي يوجب بنظر اللقاء تأمين هذه الضمانات بأن "يتشكل جسم أو إطار أو جبهة وطنية عريضة، تحمل هموم هذا الوطن، وتقود عملية التغيير من خلال الانتخابات".
وبهذا يكون اللقاء قد انتقل من النظرية إلى الممارسة. وذلك لضمان أن تأتي الانتخابات بقادة يمثلون التغيير، ولا يعيدون إفراز النظام القائم، أو نظام يفضي إلى التقاسم بين الحركتين فتح وحماس، فما سمات هؤلاء القادة: إنهم يحملون "هموم هذا الوطن، ويقودون عملية التغيير".
بكلمة، نحن أمام دعوة لتشكيل إطار، أو جبهة وطنية عريضة لتحقيق هدف إجراء انتخابات، تخرج قادة يحملون هموم هذا الوطن، ويقودون عملية التغيير من خلال الانتخابات، والانتخابات وحدها لا غير.
ولهذا على الشعب الفلسطيني اليوم، أن ينتظر تشكيل هذه الجبهة الوطنية العريضة التي يجمعها برنامج من نقطتين: الضغط لإجراء الانتخابات، وضمان الفوز فيها لقادة يحملون هموم الوطن، ويقودون التغيير في رام الله وقطاع غزة على حد سواء، أي يغيّرون معادلة أوسلو، ومعادلة مقاومة الاحتلال والكيان الصهيوني، في آن واحد.
باختصار، نحن أمام بيان خارج المعقول، ولا علاقة له بالواقع، وخارج تجارب الشعوب، ولا علاقة له بالشعب الفلسطيني، ولا يحمل همّ الاحتلال ووجود الكيان الصهيوني. وبهذا يجعل العبث واللا فعل أفضل منه خياراً