كان اسمه أبو العبد. ورغم أن اللقاءات العابرة لا تصنع حباً، إلا أني عرفته وأحببته. كُنت صغيراً حين التقيته لأول مرة، في ذات المكان الذي اعتدت - في ما بعد - رؤيته فيه، بصورة واحدة لم تتغير، تؤطرها ذكرى شباب بعمر الورد يتساقطون شهداء
في بيروت، ويعودون إلى المخيم، ليزفهم أبو العبد في عرس جماهيري لا تزال ذكرياته راسخة في ذاكرة شوارع المخيم، كما هي ملامح بقايا صورهم تغفو على جدرانه الآن.
أبو العبد كان الحاضر الدائم في جنازات شهداء المخيم، تحمله الأكتاف ليهتف بالجموع من حوله، وهو يزف الشهيد - العريس.
هو واحد من عشرات ممن احترفوا زفة الشهداء في المخيم، يتناوبون على الأكتاف والهتاف، يشبهونه بغضبه، باحمرار وجهه، بسيلان خطوط العرق على جبينه، وبتلويحة يده المحكومة بإشارة النصر. كانوا يشبهونه حتى صار لكل جنازة أبو العبد.
ثم كانت أوسلو، جواز سفر للعودة، كما قالوا، لا يمهر بالدم. معه غابت أعراس المخيم وشهداؤها، وغاب أبو العبد. فجأة، افتقدت صوته وثقل وزنه فوق الكتفين. «ختّير» أبو العبد، و«ختّير» طريق المخيم، وما عاد الاثنان يقويان على حمل شهيد واحد، فأسقطوهما في خانة التقاعد، كما أسقطوا من قبل صور الشهداء عن جدران المخيم.
أبو العبد فدائي سابق، وواحد ممن انطلقت شرارة الثورة الفلسطينية من بنادقهم.
قاتل بشراسة طوال خمس عشرة سنة أو أكثر، إلا أن قذيفة أخذت يده اليمنى أحالته على التقاعد المبكر ليعود إلى مكاتب الجبهة، متوجاً بالعز، وبيد بلاستيكية تشهد على بسالته.
وعلى موعد معه صباح كل يوم جمعة، كان أبو العبد يجمعنا ليحدثنا عن أيام فلسطين، وعن معارك الشباب زمن الانطلاقة، وعن الأردن ومرارة أيلول الأسود الذي فقد فيه ذراعه، وعن زفة الشهداء التي احترفها في ثمانينيات المخيم. إلا أن لقاءات الجمعة تلك، صارت فجأة بلا حكايات، سكت العم أبو العبد عن روايتها مع إعلان اتفاقية أوسلو، خاصم الكلام والذكريات، ومنذ تلك الساعة، نادراً ما كان شخص يسمع كلمة منه، وكأنه حكم على نفسه بالصمت. «عمي أبو العبد... شو عم يصير بأوسلو؟». تدمع عينا أبا العبد، فلا يجيب. «عمي أبو العبد... مالك؟ عم تبكي؟!».
«أوسلو يا عمي، ذكرتني أني بيد واحدة».
حتى ساعة توقيع أوسلو، لم يكن أبو العبد يشعر ببرودة يده اليمنى البلاستيكية، إلا أن الأنباء القادمة عن المحادثات السرية التي شهدتها النرويج، حملت على ما يبدو كل ما في العالم من صقيع لهذه اليد، فبدأ العم أبو العبد يشعر بأنه بيد واحدة، في وقت كانت الحياة تخمد فيه، كبر أبو العبد وكنا لم نكبر بعد.
خالف الرجل قانون الطبيعة، فدهمه الهرم فجأة وغاب بعدها، وحول غيابه تعددت الأقاويل وتضاربت.
وبمقدار ما تضاربت تلك الحكايات، كانت ترسم ملامح للرجل. فصورة أبو العبد الذي كان، لا تستوي كما اعتقد إلا مع مستحيل النهايات.
غياب ابو العبد كان إيذاناً برحيل آخر الفدائيين المحترمين، وهذا ما ثبت لنا على نحو قاطع مع رحيل أبو عمار، ياسر عرفات. كان أبو العبد يمثل مرحلة «لا صلح، لا تفاوض، لا حوار»، في مشوار الثورة. وهي مرحلة نُعيت وسط بنود أوسلو. فيما جئنا نحن، من كنا أطفالاً زمن أبو العبد، لنمثل مرحلة متحررة من الشعارات، ومن عبء كل ما رُفع فوق عمود الخيمة من أعلام وخطابات، فلم نأخذ من جيل أبو العبد إلا شعور ساكن خيمة اللجوء ومكابدات طين المخيم، وعلى هذا النحو عشنا في بيوت راسخة في الأرض، دون أن نزيح عن نفوسنا إحساسنا بأننا مؤقتون، وأننا لن نكون دائمين إلا هناك في فلسطين.
بين زمن أبو العبد وزمننا، كان ثمة زمن فلسطيني بربطة عنق، أعلنا القطيعة معه، لنقبض كما نشتهي على هاجس عودتنا، ولم تكن لتغرينا دولة في الريح، ولا كلام منابر يقف القادة فيها، على «كلنا» ليحيي بعضنا.
هكذا أعلنا المخيم عاصمة للعودة، في وقت كانت فيه ربطات العنق تعلنه عاصمة بالنسيان. سقط وهم الدولة المراقب بالأمم المتحدة في أول اختبار لها، وسقط وهم «المنظمة» الممثلة الشرعية الوحيدة للفلسطينيين، صار المخيم وحده، جسداً يتيماً بلا أب. وكان علينا أن نحبو وحدنا، وأن نتعلم وحدنا كيف يرفع المخيم قامته، ويمشي، دون أن يمد يده لأحد سوى نفسه.
وقف المخيم على قامة شبان صغار، لم يجهدوا أنفسهم بلافتات السياسة العريضة، ولم يرفعوا شعارات يساومون عليها لاحقاً. معهم عاد المخيم إلى درب العودة.
وحين صار للفلسطيني من يحمي عودته، عاد أبو العبد بوجه أكثر شباباً، وقد دبت الحياة في يده البلاستيكية، رأيته على الأكتاف يزف شهداء المخيم اليوم، يرقص بيدين ليثير حماسة الشباب حوله.
عاد أبو العبد وعادت مواكب الشهداء، ولكن المخيم عاد ليقف في أكثر الأماكن قرباً إلى الموت: مرمى بندقية قناص، يتناوب عليها الصديق قبل العدو!
أثناء حصار بيروت، صمد المقاتلون الفلسطينيون الى جانب اللبنانيين ٦٥ يوماً، متصدين للاجتياح الإسرائيليفي 4 حزيران 1982. رسم ذلك صورة أسطورية للفدائي، صار معها القادمون من لبنان نجوماً في المخيمات، تلك الصورة راحت تتضاءل مع ابتعاد البندقية الفلسطينية عن فلسطين، واستبدال خيمة الفدائي ومتاريس الرمل، بمكاتب وبيوت فخمة في أكثر أحياء المدن العربية غنى. هكذا تحول قادة الجبهات إلى سياسيين بدرجة سماسرة، ومن حفظ العهد اغتيل الواحد منهم تلو الآخر. لتمحو أوسلو آخر ما تبقى من الأسطورة.