تراها في أزقة المخيم تسير مرفوعة الرأس. الكل يعرفها ويسلم عليها، لتردّ بوجهها البشوش الباسم المليء بالحنان، رغم التجاعيد التي حفرتها سنون القهر والظلم والشقاء، وأي أمر أصعب على امرأة من أن تفجع بكل أولادها بين أسير وشهيد؟
تخرج الحاجة أم عارف في الصباح الباكر من كل يوم، لتزور قبر ابنها الشهيد أحمد. تجلس أمامه لنحو ساعة تقرأ له الفاتحة والدموع تترقرق في عينيها. هذه حالها منذ 15 عاماً، فقد اغتالته قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال اقتحامها لمخيم «الفارعة» في الضفة الغربية، والتهمة؟ مقاومة الاحتلال. يا لسخرية القدر. يحتلوننا ولا يريدون أن نقف في وجههم ونقاومهم. ورغم حرقة قلبها على فقدان ابنها، فهي تتباهى بأنها أم لشهيد.
في صباح أحد الأيام خرجت الحاجة أم عارف بعد أذان الفجر، ولكنها لم تتجه إلى قبر ابنها. ركبت الباص متجهة إلى رام الله، وعندما وصلت إلى مجمع الباصات هناك، تحسّست جيبها وهي تتفقد هويتها لتكتشف أنها نسيتها في المنزل! ماذا تفعل؟ احتارت في أمرها وأرادت العودة إلى المخيم لإحضارها. أخذت تسأل عن مواعيد الباص العائد إلى هناك، إذا بسائق يراها تائهة ويسأل عن مشكلتها لتخبره أنها نسيت هويتها في المنزل وهي ذاهبة إلى محكمة ابنها في «عوفر» ولن يدخلوها من دون الهوية.
أشفق السائق على حالها، فكيف ستقطع المسافة مرة أخرى ذهاباً وإياباً؟ قال لها «هذا صعب عليك يا حاجّة، لماذا لا تتصلين بأحد من أهلك أو أقاربك لإحضارها أو إرسالها مع أحد السائقين القادمين؟ فأجابته بأنها فكرت في ذلك، لكن هاتفها المحمول كان معطلاً ولم تحضره معها، كما أنها لا تحفظ أرقام أبنائها».
عندما علم السائق أنها من مخيم الفارعة. تذكر أن لديه صديقاً هناك يمكن الاتصال به علّه يصل إلى أهلها. سألها عن اسمها فأجابته بفخر «قل له إنني أم الشهيد، فالكل يعرفني». تساقطت الدموع من عينيها وهي تشكره، وأخبرته أنها المرة الأولى التي تنسى فيها هويتها، فقد خرجت مستعجلة خوفاً من ألا تقدر على رؤية ابنها إن تأخرت، رغم أن الاحتلال لا يسمح لها بالاقتراب منه، معقّبة بأنهم في كل مرة تزوره فيها يقولون لها إنه ممنوع من الزيارة أو نقلوه إلى سجن آخر، فصمّمت اليوم على رؤيته ولو من بعيد، لتلوّح له بيدها فيطمئن إلى أنها إلى جانبه.
كان الناس حولها يتبادلون الأحاديث ويضحكون، لكنهم بعد سماع قصتها، صمتوا. فأمامهم أم هي مثال لأمهات فلسطينيات كثيرات، ما أعادهم إلى واقعهم المرير: إنهم محتلون ولا يخلو بيت من بيوت الفلسطينيين جميعاً من شهيد أو أسير، فكيف إذا اجتمعا معاً.
بعد فترة وجيزة رنّ هاتف السائق، إذا بابنتها علمت بخروج أمها، فاتصلت متلهفة تسأل عنها ولتخبرها أن محكمة أخيها غداً وليس اليوم، معاتبة إياها كيف لم تمر بها قبل الخروج من المخيم. عندها استدركت الحاجة خطأها وقالت «صحيح يا ابنتي إنها الخميس وليس الأربعاء، ولكنني استيقظت عند صلاة الفجر وبتّ أدعو لأخيك أن يفكّ أسره، وما إن انتهيت حتى ارتديت ملابسي وخرجت ظانة أن المحكمة اليوم». مسحت أم عارف دموعها بيدها واعتذرت من الجميع على إزعاجهم، ووعدت ابنتها بأنها ستركب الباص عائدة حالاً فلا تشغل بالها.
أقرأ ملامح أم عارف في وجه خالتي التي فقدت ابنها في عملية استشهادية في فلسطين، متسلّلاً من جنوب لبنان في الثمانينيات. لأم عارف قبر تزوره كل صباح لتروي لابنها حكايات الوطن الذي افتداه بروحه، أما خالتي فلا قبر تزوره لتناجيه، بل بات الوطن الذي هجّرت منه طفلة صغيرة قبراً كبيراً لطفلها الذي أنجبته وربّته في أزقة مخيم اليرموك على حب وطن لم يره، لكنه بات أقرب إليه من حبل الوريد، وهي ليست نادمة، فهي كما تقول، أم الشهيد.