الموت في زمن الحروب والمجاعات والأوبئة والكوارث الطبيعية، يُفترض به أن يتحوّل إلى حدثٍ مؤلمٍ عادي. ولكن عندما يمسّ إنساناً تعرفه، وعشت معه، وربطَت بينكما مودّة وأواصر صداقه وأخوة، سوف ينزل عليك نزول الصاعقة، ليهزّ عقلك وقلبك ونفسك وروحك هزّاً شديداً، كما يفعل الزلزال عندما تميد الأرض تحت قدميك ومن حولك.
ثمة أغنية شعبية عراقية تقول في إحدى مقاطعها «متعود على الصدعات قلبي». لأنّ الحياة بما تحمله من صعوبات وأحزان تفرض على القلب أن يتعوّد على «الصدعات». ولكن الأمر يختلف عندما يأتي الموت إلى من تحب. وقد أصبح جزءاً من حياتك، كما حدث، لأصدقاء نافذ أبو حسنة، ولي، فمنذ علمنا عن توقف قلبه عن الخفقات، تطاير ما تعوّدت عليه قلوبنا من صدعات. وشعرنا كما لو أننا نواجه موت صديق، للمرة الأولى، أو حدوث الصدمة القاسية الأولى.
تشتدّ علاقة نافذ أبو حسنة بمن صادقوه أو عرفوه إلى مستوى علاقة الشقيق بالشقيق. والسبب في ذلك يعود إليه، وإلى شخصيّته، وكيف يتواصل معك، ويتعامل وإياك، فيأسرك بصدقه وعفوية إحساسه. وهو ما تراه في عينيه وحركة يديه، وفي كلماته ووعيه وانفعالاته. وهذا ما يحدث كلّما أقدم فلسطيني أو عربي على تفريط في ثبات من ثوابت القضية الفلسطينية. فيغضب كأنّ هذا التفريط يحدث لأول مرة.
نافذ أبو حسنة ابن غزة، ابن المخيم، ابن النكبة ابن النضال، وابن القضية. فقد ولد في العذاب، وترعرع في عذاب النكبة والنكسات. وكيف إذا اجتمع كلّ ذلك في قلب أديب مرهف، موهوب ومبدع. وذلك حين يجتمع القلب الملتهب المتفجّر بالعقل السياسي الموضوعي المتّزن.
كان يؤكد حتى الأسبوع الماضي، أنّ الفلسطيني يجب ألّا يغادر المربع الأول، متمسّكاً بالثوابت، وباستراتيجية الكفاح المسلّح. ولا تضلّ بوصلته عن القدس وفلسطين، اليوم وغداً، كما أحسّ ومنذ البداية. وهذا ما أعادت تأكيده تجربة اتّفاق أوسلو الكارثي، وتجربة المفاوضات وما يسمّى بالتسوية.
رمى نافذ أبو حسنة نفسه نحو خضم الثورة الفسطينية فتى استشهادياً، قبل أن يصبح فيها مفكّراً ومنظراً وأديباً وإعلامياً وقدوة ورمزاً. لقد خاض تجربة المناضل الفصائلي في صفوف حركة «فتح»، مستمسّكاً بمنطلقاتها واستراتيجية الانطلاقة بلا هوادة. فقاده ذلك إلى أن يخوض تجربة الصراع الداخلي ضد التخلّي عن الثوابت، كما ضد ما راح يظهر من سلبيات وبعضها لامس الانحراف، وآذن بأكثر من ذلك.
الأمر الذي جعله يخوض تجربة «الانشقاق» 1983، وهو يستهدف الإنفاذ والإصلاح. وقد عقد الآمال الكبار على ولادة البديل. ولكن مع محاولة بناء البديل دهمته تجربة خيبات الأمل، والمفاجآت الصادمة.
هذه التجربة المريرة جعلت الكثيرين يغرقون في عالم اليأس، ما يؤدي إلى الفرار، والانكباب على الانشغال بمستقبل العائلة والأنجال، إما بنقل البندقية من الكتف إلى الكتف، أو رميها بعيداً. ولكنّ نافذ كان كراراً ولم يكن فراراً. فعاد ليقف على قدميه من الكبوة. ويبحث عن العودة إلى المربع الأول: مربع الثوابت والمقاومة ومربع القيم الثورية، فعاد إلى عين العاصفة من جديد، ومن دون أن يغادر قط ما كان يسمّيه المربع الأول.
أصبح نافذ أبو حسنة، الآن، صاحب تجربة غنية بما عرفته التجربة الفلسطينية المعاصرة من إيجابيات وسلبيات، وما خبرته من نجاحات وإخفاقات، والأهم ما سطّرته من بطولات الشهداء والأسرى والجرحى والعائلات المنكوبة. وقد صحب معه، الآن، الإعلامي الفذ نافذ أبو حسنة. والأديب الموهوب كاتب الرواية الذي قفز إلى المرتبة العليا برواية «عسل المرايا»، ومن قبلها «مقام البكاء»، وستكون الثالثة بعد الخروج من المطبعة إن شاء الله قفزة أخرى، أما قبل ذلك، فنافذ الباحث والموثق، وكاتب المقالة الرصينة العميقة.
على أنّ نافذ الذي قارب أن يبلغ الستين من العمر الذي، للأسف لم يصل إليه بعد، فقد بقي الفتى الذي عاد إلى شبابه مع باسل الأعرج، ومع «فلسطين اليوم»، بعد رحلة مرّت بـ«المنار» و«العالم» و«القدس»، ليكمل الطريق ضد ما يسمى زوراً «صفقة القرن»، وضد قرار الضم فإدارته لقناة «فلسطين اليوم» أتاحت له أن يسهم، بقوة، في بث روح المقاومة والانتفاضة.
ولكن كيف يا نافذ تغادرنا وأنت في قمة عطائك، وفيما النضال والقضية في أمسّ الحاجة إليك، بل وأدب الرواية، ووعي المرحلة المقاومة كانا بانتظارك.
بل يا قلب نافذ الذي سكت في العاشر من آب/ أغسطس تباً لك: لماذا فعلتها بهذه السرعة، وفي هذا الوقت بالذات؟ بالتأكيد سيأتي جوابك: هذا نافذ لم يترك همّاً إلا وضعه علي، ولم يترك حزناً إلا وغرسه فيّ. ولم يترك حُباً إلا حمّلنيه. فكيف لي أن أحمل أكثر، فمن كان قلبه قلب نافذ ما كان بمقدوره أن يستمرّ في الخفقان حتى الأربعين وليس الستين.
يا نافذ، لسان أصحابك كل أصحابك يقول لك: إن تُودّعنا لا نودعك. وإن تغادرنا لا نغادرك، لأنّ حضورك لن يغيب عنّا أبداً كما لو كنت معنا، وبعزيمة أقوى، وبنقاء أشد، وبتفانٍ لا حدود له، تماماً كما يرضيك، وكما تحب أن ترى.
وبهذا نبطل فعل فراقك. واطمئن ستبقى نار قضية فلسطين متأجّجة حتى النصر.