بقلم: مروان عبد العال
عادةً، السرد يبدأ بالرحيل. البطل يسافر، تدور عجلات السيارة، أو تسمع هدير الباخرة... لحظتها يسافر القارئ مع البطل. لا يرحل البطل وحده إنّما القارئ بصحبته، ويبدع الكاتب في توريط القارئ وسحبه إلى زمن الحكاية. هكذا ورّطني صاحب «مقام البكاء» في حفل إطلاق روايته الثانية «عسل المرايا»، التي تبدأ بجملة أولى تقول: «ظهرت الدبابات على جسر المدينة». وتنتهي الرواية بالجملة التالية: «وقف قبالة البحر مرّات. تنشّق الهواء الفاتر بقوة وعندما عاد للسير كانت رائحة مشوشة تملأ أنفه». فيها يتواصل الراوي في زمن دائري، كلّما اكتملت دائرة تضيق الأخرى كمقام البكاء مع الخرافة الفظيعة التي تتفشّى لتنال من حس الخليقة، لتفتيت المقام بنية وكياناً ومن زمن تكسير المرايا الخادعة التي لم تعد تعكس حقيقة صورها. تحمَرّ وجنتاه خجلاً عندما ذكرته بما جاء على لسان ابن رشيق: «كانت القبيلةُ من العرب إذا نبغ فيها شاعرٌ أتت القبائل فهنّأتها». فكيف إذا كان الفتى مثل نافذ أبو حسنة؟ نافذ ينتمي إلى هوية وفكرة وحلم ومن عشيرة الثقافَة المقاومة. إنسانٌ جميل وفتى ذو نطاقين ناسفين. في قاعة اليونسكو في بيروت يوم إطلاق روايته «عسل المرايا»، همس في أذني على المنصّة، قائلاً: «إنه من غير المألوف أن نحتفي بولادة في زمن الموت!». يومها ضحكت عيناه رغم التوحّش الإرهابي الذي كان في ذروته، وقلب نافذ على سوريا التي أحبَّها، لمّا أجبته: «إنّها الصرخة الإيجابية لنتقيأ عالمنا الداخلي ونقاتل البشاعة». كانت ضحكة من يحب الغوص في أعماق وروح الراوي التي تجري في النص كما في مجرى الدم. لا يحبّ المديح، ولكنّه يكون جذلاً ممتنّاً حين تحسن إلقاء القبض على شيفرته الخاصة.
نافذ الفلسطيني الفذ، تناغمت فيه تُربتان، تربة الكاتب والَتفَاعلات التي اشتعلت فيه وكوّنته وتُربة النص الروائي نفسه، انصهار المثقّف في الروائي الذي يسجل الروح، والإعلامي الذي يكتب الحدث. يتميّز بالنفس التمرّدي في فتى نبيل شجاعته في هزّ أعمدة قصر السلطان الذي ينهب قوت وعمر وحياة وغد الشعب. نافذ روبن هود يسرق من القصر ليطعم جائعي بلدته.
نحن يا صديقي أولاد التغريبة نكتبها بأعصابنا، لا سيما ونحن الشاهد والشهيد والبطل والضحية والراوي والرواية في آن معاً، حكاية الدياسبورا المتجدّدة. المنفى الذي يسهم في تكوين وعي الفلسطيني لذاته. هذه تربة نافذ أبو حسنة، التربة الخصبة بالوجع في زمن المرايا التي تحملنا إلى تجربة أبطالها وانكسار شخصياتها وظهور الوجوه الملتبّسة، لتقول إنّ لكلّ فلسطيني حكاية، حكاية من لحم ودم وحلم، ونحن الأقدر على تصويرها من أية مؤسّسة إعلامية أجنبية أو هيئة بحث دولية، أو جهاز استخباري محترف، أو لجنة تقصّي حقائق تابعة للأمم المتحدة، وكي لا يسرقها ويشوّهها مزوِّر أو منبطِح! نافذ هو الرواية الفلسطينية الأصلية، هو وتر الفدائي الذي امتشق البندقية وقاتل دفاعاً عن ثورته وفكرته وقضيته، ليظلّ الفلسطيني الذي يليق بفلسطينيته والمطابق لكلّ مواصفات الحلم ومعاني اللجوء والكامل النكهة مبدعاً بالفكر والممارسة.
قرّر أن يقلّد أبطال روايته... هل يحقّ للمؤلف أن ينتحل شخصية البطل، يحوّلها إلى الأنا المستترة المشحونة بالدراما وانسياب اللغة وأفكارها الناصعة إلى حدّ المباشرة، ويغادر الرواية ويسافر من دون حقيبة؟ هل لأنّ الرواية باقية! ترك نافذ خلفه «المشهد الفلسطيني» و«فلسطين اليوم» و«ذاكرة فلسطين»، ولكنّه يعلم أنّ فلسطين لم تسافر، كان يضعها على الشاشات والمحطّات، بالصوت والصورة والمقال والدراسة والمحاضرة والفكرة والموقف والرأي والرؤية، يوثّق تاريخها وأفلامها ويحفظ ذاكرة قادتها ورجالها ورموزها وأبطالها. ومع كلّ فعلٍ روائي، يصبح أكثر شفافية، كأنه طبقة زجاجية رقيقة تتجاوز مهمّة الصحافي المراوغ، الذي يلبسه ثوب المحقق المريب، في برامجه المميزة منذ أن أتاح لي قلمه الأدبي التسلّل المتدرّج والمتواصل في طبقات النفس وأوجاعها والذاكرة المقتلعة والمستدَامة في الزمان والمكان.
الجلسة الأخيرة، بعد ندوة ثقافية مباشرة على الشاشة، حول الاختراق الصهيوني للمسلسلات الدرامية، وكالعادة الدردشة بعد اللقاء التلفزيوني تكون بنكهة أمتع وحرية أكثر، وإن كان صباحياً لا ينفع الأمر ولا يستقيم البحث من دون استكماله بإفطارٍ تلفزيوني. يستدرجنا البحث في غرفة مكتبه، ندرك أنّ الثقافة هي الحاضر الأكبر بيننا، أهمّ مفاتيح الهوية الفلسطينية. نتحدّث عن هموم اتحاد الكتّاب وجمع الشمل الثقافي وتوحيد الأقلام في خندق جبهة موحّدة عابرة للجغرافيا لأنّها قضية حرية، يجب أن تكون أول القلاع التي تقاتل وليس آخرها. لديه دعوة يكرّرها في كلّ حوار فكري، أن نفعل شيئاً، أن نُلقي ولو حجراً في المياه الراكدة و التواقة إلى حراك فكري، كسهم يخترق جمود العقل وإقالة الوعي. يسأل عن سلطة المثقّف، الذي لا يرهن وجوده لا لمنصب أو مرتبة أو مرتّب، بل للمحتوى التربوي والإحساس النقدي... عن مثقّف عضوي مقاوم لا يقبل الصيَغ السهلة أو الأفكار الجاهزة أو البراهين الناعمة الملائمة ومغريات السلطة، التي تسرق أعمار الناس لتخلّد أعمار شاغليها.
نافذ أبو حسنة المُقاتل والفدائي والكاتب والباحث والروائي والصوت والصورة والحسّ والخليط الإنساني الرفيع، الفلسطيني، العروبي، هو ابن غزة «الولّادة». الإنسان الذي تكتشفه بالتقسيط، يشعّ أكثر ويُبدع كلّما تخلّى عن حمولته السياسية المباشرة، وهي مهنة شبه مستحيلة، يصبح أكثر وضوحاً ليضمحلّ الجدار الفاصل بينك وبينه. تطفو فيه شفافية الإنسان والصداقة الحقيقية. بانت بوضوح يوم كان مخيم نهر البارد يحترق، كان نافذ يعضّ على شفتيه وسيجارته ويشدّ قبضته ويحترق، دائم الاتصال إلى أن اطمأن على مغادرتي المخيّم سالماً، لتجمعنا دردشة بيروتية مسائية. يومها، حدّثته عن احتراق البيت، وما فعله الإرهاب بمكتبتي ولوحاتي عالمي، سألني مستغرباً: «لماذا البيت له هذه المكانة في حياتك؟»، قلت: «تعويضٌ نفسي عن وطن!»، ابتسم وقال: «أنا لا يعني لي البيت شيئاً!» ــــــ بالمناسبة هذا قبل أن يحترق بيته في مخيم اليرموك بسنوات ـــــــ وأكمل: «لأنّني لاجئ يختلف عنك! أنت ربما للمرة الأولى تغادر المكان»، وأضاف: «أنا أدمنت الفراق منذ خروجنا من غزّة، وما بدّلوا تبديلا، لقد بدّلنا أكثر من عشرين بيتاً، وتنقّلت عبر الحدود، ومن دولة لأخرى، وفي ذاكرتي البيت دون الوطن لا شيء».
أدهشته صفة اللاجئ الأفقي، وأنه الفلسطيني العابر للحدود والمخيّمات والبلاد. مؤخّراً، ذكّرني أنّه أصبح لاجئاً بعيد المدى، العابر للمحيطات والصحارى والقارّات، بعدما وصلت أقدام عائلته إلى البرازيل أخيراً. وصار يعمل في بيروت، ويأخذ إجازة سنوية إلى هناك! وبينما أنا الفلسطيني اللاجئ العامودي الذي تتواصل غربته في النفس الواحدة والبلد الواحدة والمخيّم الواحد في حلقات مغلقة «وغيتو»، ليضيف تعريفاً جديداً لأصناف البشر، قسمة جديدة: اللاجئ المقيم والمؤقت والدائم والأجنبي والعامل الشرعي وغير الشرعي، والإنسان الشرعي وغير الشرعي. الإعلام الغربي الذي نقلّده، توصّل إلى اختراع تسمية جديدة: «البشر غير الشرعيين». أو المسافر الطبيعي بحقيبة، حتى جاء نوع آخر من البشر: مسافر بدون حقيبة! كما سألت طفلة إيطالية عن اللاجئين الغرقى على شواطئ قريتها: لماذا هؤلاء المسافرون بلا حقائب؟ كانت الإجابة: لقد احترق الوطن والبيت والسفينة فما لزوم الحقيبة؟ طالما فلسطين في حقيبة القلب الذي صمت في زمن العويل لتظلّ فيه نبضه الأخير. غادرتنا على عجل كمسافر على عجل، والتهمك الخبر العاجل... كل خطوة أو كلمة أو بسمة عاجلة... بيتٌ عاجل وخبر روايتك الثالثة، جاء كخبرٍ عاجل ولم تبُح لي باسمها.
يا صديقي، أنا وأنت بيننا بيت ومخيّم وحريق، ونعلم أكثر من غيرنا أنه لا ذكريات نحملها عندما ينتصر الحريق!
الروائي الجميل الذي سافر ولم تسافر ابتسامته، في كلّ جلسة تأخذنا الكتب إلى كتب، والأفكار إلى أفكار، وكلّ حكاية تدلف إلى حكاية. وحرفك كحجر يُلقى في المياه الراكدة، وها أنت تترك خلفك شيفرة الروح المتمرّدة، وتستعيد ما قاله جورج أمادو: «ليس لدينا حقٌّ أكثر استقامة وأكثر ثباتاً من حقّنا في الحلم، إنه الحقّ الوحيد الذي لا يستطيع أي ديكتاتور أن يقلّص من حجمه أو أن يلغيه».
إنّه حقنا في الحلم والابتسامة والأمل وحب الحياة، لا يُلام الحلم إن غفت عين الحالم، ولا نستطيع الحلم بعيون مفتوحة ولكن بعقول يقظة!
يا ابا أحمد لحلمك المجد ولروحك السلام.