قبل أسبوعين تقريباً من اليوم، ودَّعنا أخاً عزيزاً، مناضلاً وقائداً كبيراً الفقيد صالح أبو طايع رحمه الله تعالى، وها نحن اليوم نُودِّع أخاً عزيزاً آخر، مفكِّراً وكاتباً كبيراً، ومنافِحاً عنيداً عن قضيته وقضية شعبه وأمته، قضية فلسطين، نودع الإعلامي الفلسطيني الكبير والكاتب الوطني المخضرم نافذ أبو حسنة .
إنَّنا نحن الفلسطينيين الذين نُقدِّر قيمة جهود أبناء فلسطين الكبار، نحزن حزناً عميقاً لفقدانهم، فليس من السهل تعويضهم، وإنَّني لحزينٌ لفقدانك يا أبا أحمد، لقد زُرتُه في الفترة الأخيرة من حياته مرَّتين في مقرِّ عمله، في فضائية فلسطين اليوم، حيث كان يعيش ألماً كبيراً، إذ لم يكن مبعث ألمه العميق هذا ممَّا يخطر على بال الملايين من أمة العرب، كان يتألَّم من شيوع موضةٍ جديدةٍ بتعبيره -والله شاهدٌ- في دنيا العرب، موضة افتتحها كمال الصليبي ولا زالت تتدحرج، موضة صار الحديث من خلالها، أنَّ القدس وبيت المقدس و “أورشاليم” وأرض الإسراء والأرض المقدَّسة ليست في فلسطين، بل في اليمن وعسير وجنوب جزيرة العرب، وبالتالي فإنَّ الصراع في فلسطين ليس له علاقةٌ بالقدس الحقيقية، وإنَّ الإسراء لا محلَّ له في الصراع، ولا أيضاً الأرض المقدَّسة ولا الأرض المباركة، فما يجرى في فلسطين لا علاقة له بكل هذه الأبعاد، لقد اختلف المشهد بدخول هذه الموضة اختلافاً تامَّاً عمَّا سبق.
لقد رأى نافذ أبو حسنة رحمه الله في هذه الموضة الجديدة فعلاً منظَّماً لا يستطيع فردٌ أنْ يقوم بها، بل رأى فيها فعل مؤسَّساتٍ مقتدرةٍ، ترسم وتخطِّط وتنسِّق وتُحدِث تخريباً مقصوداً في وعي الأمة، التي لم تتوحَّد حقّاً إلا حول فلسطين وقدس فلسطين، لم يكن يرى في هذه الموضة إلا خدمةً لصالح أعداء الأمة وفرصةً تُمهِّد لإدراج العدوِّ الصهيوني في المنطقة بسلاسةٍ، وتمهيداً لمدِّ هيمنتها على المشرق العربي كلِّه.
لم يكن لهذه الموضة غير هذا الغرض المريب، ولقد عزم فقيدنا رحمه الله على مواجهة هذه الموضة وأبلغني بذلك، بل وبدأ بجمع موادَّ لهذا الغرض.
ولقد شجَّعتُه، فأنا أؤمن بما اعتقدَه وإنْ كنتُ أفتقر إلى إمكانياته، وبوفاته فقد خسرتُه شخصياً من هذه الناحية بجوار غيري من العرب، كما خسرتُه من ناحيةٍ أخرى، فقد كنتُ مهتمَّاً بنصٍّ قديمٍ لأحد آباء الصهيونية، نصُّ مؤلِّفه -أحد عتاة الحركة الصهيونية قبل هرتزل- (موسيه هس) بعنوان: “روما والقدس”، وكان هكذا عنوانٌ، وفي تلك اللحظة التأسيسية قبل أنْ تتحوَّل الفكرة الصهيونية إلى حركةٍ ودولةٍ، كان عنواناً مثيراً فعلاً أنْ يضع “القدس اليهودية” المتخيلة في مواجهة روما، مركز العالم لحظتئذ.
وتَصادف أنْ كان “نافذ” مهتمَّاً بهذا النص القديم ولم يجده فقدَّمته إليه، وأخذ على عاتقه أنْ يقوم بعمل قراءةٍ له، وبغيابه فقد خسرْنا وخسرتُ شخصياً هذه القراءة المعتبَرة -بالتأكيد- لهذا النصِّ المهمِّ.
كثيرةٌ هي الخسارات التي يمكن تعدادها بفقدان “نافذ”، ولكنَّ الخسارة الأكيدة لنا جميعاً فقداننا لشخصِ “نافذ” الإنسان، المثابر، والمهموم بقضيته ومصير أمته، رحم الله أبا أحمد وأسكنه فسيح جناته وألهمنا وذويه ومحبيه الصبر والسلوان.
بقلم / عضو المكتب السياسي لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين عبد العزيز سعيد الميناوي