بقلم: عوض عبد الفتاح
طيلة فترة الثبات على أرضه، والمقاومة التي أبداها شيخ قرية العراقيب، صياح الطوري، في مواجهة الحملات الإسرائيلية المتتالية لإخلائهم منها، لم يجرؤ غالبنا، إن لم يكن جميعنا، على طرح السؤال الحقيقي: لماذا صمد هذا الشيخ وجزء من أفراد عشيرته، طيلة أكثر من عشر سنوات، وبعد هدم بيوت القرية ما يزيد عن 130 مرة، وبالرغم من الاعتداءات الوحشية، وتكسير العظام وتنفيذ الاعتقالات، والتسبب بخسارة مادية كبيرة؟
ما هو سر هذا الإصرار، والإرادة، وراء هذه المقاومة التي قام بها دون أن تستقطب التفافا جماهيريا حقيقيا، ولماذا لم تتحول هذه التجربة إلى نموذج عام في النقب بشكل خاص، وفِي باقي البلدات العربية في الوسط والشمال؟
ألم يحن الوقت لطرح هذا السؤال، وأن نتجاوز مرحلة التعبير عن إعجابنا بصموده، والتغني بمآثره، نحو فهم أسرار هذا الصمود، وفِي الوقت ذاته فهم أسباب الإخفاق في تحويله إلى نموذج مقاتل من أجل قضية عادلة، تتمثل في الحفاظ على البيت واسترجاع الأرض، وتوصيل رسالة قوية إلى نظام الأبارتهايد؟!
ليس خافيا على أحد أن الشيخ صياح الطوري، ابن السبعين عاما، يدخل السجن الصهيوني، بعد الحكم عليه بعشرة أشهر، بخليطٍ من المشاعر لم يخفها في يوم من الأيام. فبالإضافة إلى الشعور بالاعتزاز، هناك مشاعر العتب والإحباط، والغضب، ليس فقط ضد نظام الأبرتهايد المتوحش الذي يسرق الأرض، ويستعمر البلاد والنَّاس، بل أيضا عتب علينا جميعا، أفرادا ومؤسسات: هيئات عربية قُطرية، وحزبية، ورؤساء وأعضاء سلطات محلية، وأكاديميين ومثقفين، وهي المؤسسات التي من المفروض أن يكون سلوكها النضالي مختلفا.
شيخ العراقيب، شخصية بسيطة، لم يحظ سوى بالقليل من التعليم المدرسي، ولا يكتب المقالات، وليس خطيبا مفوها، ولا يرتاد المقاهي والسينما. يرتدي اللباس العربي التقليدي؛ قمباز وحطة وعقال، ويرتسم على وجهِه شاربان كثيفان وضخمان يوحيان بالرجولة والإقدام. عيونه غاضبة، تقدح شرراً عندما يتحدث عن القمع والظلم. هو شديد الجدية، وليس دبلوماسيا في كلامه، ولا يتردد في توجيه النقد اللاذع لأهم القيادات، حتى أثناء حضورها للتضامن معه. دائما طالبها بالجدية في العمل.
هناك من يدعي أن أحد أسباب غياب التفاف القيادات القطرية والمحلية حوله هو هذه السمات، التي يعتبرونها منفرةً، وآخرون يدعون أن السبب هو تمركزه في قضية العراقيب، دون القضايا الأخرى المشابهة في منطقة النقب، غير أن الحقيقة المرة تكمن في مكان آخر: إنه العجز، وقلة الإبداع، والميل إلى النشاط الناعم، وعدم الاستعداد عن التنازل عن نمط حياتنا التي اعتدنا عليها.
لا تكتمل الصورة عن صياح الطوري دون أن نشير إلى كونه كريما، ومضيافا، رغم حالة التقشف التي يعيشها هو وحوالي 200 من أفراد العشيرة. لقد أعيد بناء القرية، وبتعاون ومساندة العديد من القوى الوطنية، والشخصيات اليهودية الديمقراطية، عشرات المرات. بيوت من تنك، وخشب بسيط، وخيام. وأقيمت مهرجانات تضامنية عديدة على أرض القرية، وجرت عشرات المواجهات، وسقط جرحى كثيرون.
هذا الصمود الذي قاده صياح الطوري، استقطب تضامنا دوليا يفوق حجم القضية، وتحديدا في أوساط المجتمع المدني. وكان هذا مفيدا في حملة كشف الحقيقة عن إسرائيل، وخاصة سياساتها ضد المواطنين الفلسطينيين، التي تخوضها حملة المقاطعة BDS للجان التضامن مع القضية الفلسطينية. كما حظيت القضية بتغطية مقبولة في الإعلام الفلسطيني عامة.
وفِي داخل الخط الأخضر، وصلت القضية إلى كل بيت، ومع ذلك لم تتحول إلى نموذج فردي ولا جماعي، يتبناه الفلسطينيون، بصورة منهجية، ومستمرة. وهنا، لا بد من التوقف أمام تجربة مقاومة شعبية لها صلة بالحديث، حققت نجاحا هاما، لكن دون أن تكتمل، انطلقت من النقب ووصل امتدادها إلى المثلث والجليل ومدن الساحل، هي تجربة مقاومة مخطط "برافر" الاقتلاعي. تفجرت قضية "برافر" بعد فترة قصيرة من قرار عشيرة الطوري العودة والانتقال إلى السكن في أراضيها، في قرية العراقيب المهدومة وذلك على أثر إعلان إسرائيل عن البدء بتنفيذ مخطط لتهجير سكان عشرات القرى منزوعة الاعتراف، في النقب، بهدف الاستيلاء على ما تبقى من أرض وإقامة مستعمرات صهيونية. وقد أجبرت هذه المقاومة حكومة نظام الأبارتهايد، أواخر العام 2013، بعد ثلاث سنوات من التحضير والنشاط، والمظاهرات، التي حضرت لها وقادتها المؤسسات العربية التمثيلية، والحزبية، وبرز فيها الدور المركزي والرائد للحراكات الشبابية، على إلغاء قانون "برافر". وفِي إطار مقاومة هذا القانون- المخطط، تحولت قضية العراقيب إلى تفصيل، ولكنه هام ، في مجمل هذا المخطط الاستعماري. وطغت المقاومة الجماعية الواسعة ضد المخطط، ذات البعد الوطني الشامل، على المشهد العام، وساهم هذا في تقرّب الأجيال الشابة، داخل الخط الأخضر، إلى قضية فلسطينيي النقب، التي هي جزء من قضية الوجود الفلسطيني في وطنه.
اضطرار إسرائيل إلى إلغاء قانون "برافر"، تحت ضغط المواجهات العنيفة، في شوارع مركزية، دفعها إلى تغيير تكتيكاتها فقط، إذ تواصل المخطط بطريقة أخرى، أي تنفيذه بالتنقيط، حتى لا يثير مقاومة جماعية. هكذا تم تدمير قرية أم الحيران، العام الماضي، وهكذا يستمر "طقس" هدم قرية العراقيب، وهكذا تتواصل سياسات النهب والتهجير، والتحريض، والإفقار، دون مقاومة شعبية ميدانية حقيقية، ودون أن تغير القيادات السياسية، والاجتماعية والأهلية، من روتين حياتها.
لهذا السبب لا نجرؤ على طرح السؤال، ولا نجرؤ على الإجابة عليه. لأن الإجابة عليه تعني ضرورة تغيير سلوكنا، الفردي والجماعي، وتعني ضرورة تغيير أدائنا كمؤسسات قيادية، وطريقة تخطيطنا للنضال. ممثلو الجمهور العربي، في غالبيتهم، يميلون إلى التواجد في منابر الخطابة والإعلام ومنصات الكنيست، جل وقتهم، وليس بين الناس. و"بين الناس" لا تعني حضور الأعراس التي لا نجرؤ على التغيب عنها، ولا في مناسبات العزاء وحدها، بل التواجد من أجل تنظيم الناس، في أطر شعبية، نعلمهم ونتعلم منهم، ونواكب تفاصيل عملية البناء والتخطيط. هذا هو التحدي، الآن.
عن "عرب ٤٨"