Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

قرار الجنائية الدولية باعتقال نتنياهو وغالانت "يوم أسود في تاريخ الإنسانية"!

فلسطين اليوم

تدرك "إسرائيل" أن قرارات الهيئات والمنابر الدولية، بما فيها مذكرات الاعتقال الأخيرة "لن تمنعها من مواصلة جرائمها على أرض الواقع"، ومع ذلك، يُجن جنونها عندما يغرد أحدٌ خارج سربها.

 

قوبلت المذكرات الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية باعتقال رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير حربه السابق يوآف غالانت بغضب واستياء عارمين في "تل أبيب" وواشنطن، بالتزامن مع التوعّد باتخاذ إجراءات رادعة قوية بحق المحكمة، وكل من يدعم موقفها. والواقع أن حجم هذا الغضب لم يكن مُفاجئاً أو مُستغرباً، فقد سبق لـ "إسرائيل" أن تصرّفت وفق المنطق الأرعن نفسه في سياق ردود أفعال مشابهة أطلقتها ضد شخصيات وهيئات ومنابر دولية انتقدت "إسرائيل" أو أصدرت أحكاماً بحقها، كما فعلت مع محكمة العدل الدولية، والأمم المتحدة وأمينها العام. 

هذا السلوك غير المتسامح بالمطلق مع النقد، حتى وإن يكن لفظياً إنشائياً، لم يكن وليد الحرب الإسرائيلية الجارية على القطاع ولبنان، بل هو نتاجٌ تراكمي لنفسية مُستعلية تربّت على الغطرسة التي شجعها الغرب وعزّزها عبر التغطية على "إسرائيل" وجرائمها، والسماح لها بالإفلات المتكرر من عواقبها في كل محطات حروبها واعتداءاتها التدميرية السابقة على الفلسطينين والعرب، ناهيك بالموقف العربي الرسمي الضعيف المنكسر أمامها، بل وربما المتآمر معها في بعض الحالات.

ليس هذا فحسب، بل إن تصريحات "إسرائيل" الغاضبة وتهديداتها تُفهم، بالاستناد إلى المعرفة الدقيقة بالعقلية الإسرائيلية والتجربة الطويلة في مقارعتها، في سياق اعتقادها الجازم والحصري باحتكارها موقع "الضحية"؛ فلا أحد سواها في هذا الكون يحق له أن يبكي أو أن يصرخ، خصوصاً عندما يكون هذا "الأحد" هو من تقاتله، وتبني سردية تهديدها الوجودي على "عداوته" وتستجدي عطف العالم وإمداده الدائم لها بالمال والسلاح والمواقف السياسية من تضخيم صورته واتهامه الدائم برغبته في "إغراقها في البحر"، فكيف إذاً ووفق أي منطق تُتهم هي "الضحية" بارتكاب جرائم حرب بحق "قاتلها" العربي الفلسطيني!

ألم يقل العالم في غالبيته إن لـ "إسرائيل" "الحق في الدفاع عن نفسها"، ألم تقل الولايات المتحدة الأميركية إنها لا ترى في كل القتل والإبادة اليومية التي تمارسها "إسرائيل" ما يرقى إلى جرائم ضد الإنسانية، إذاً كيف تجرؤ محكمة الجنايات الدولية على فعل ما فعلت، إنها "ولا شك معاداة السامية وبُغض اليهود هما من يحرك هذا المنبر الدولي المُعادي.."! 

تُبرر "إسرائيل" أفعالها بذريعة "الدفاع عن النفس" كأساسٍ دائمٍ لاستخدام القوة المُفرطة والمميتة مع الفلسطينيين، فالمنظمات "الإرهابية" الفلسطينية تُعلن أنها تنوي تدمير "إسرائيل"، وقيادتها "شريرة وتسفك الدماء"، لذلك فإن "إسرائيل" تواجه "الدمار" لا أقل!، وفي مواجهة التهديد الوجودي، "كما تعلمون، كُل الوسائل مُباحة"!. والواقع أن زرع هذه الأوهام من "الخطر الداهم" يُمكن أن يقود أي أمة، ولو تظاهرت بأنها "ديمقراطية ومستنيرة"، إلى ارتكاب الفظائع، كقصف السكان المدنيين، وقتل الأطفال، وفرضِ الحصار والتجويع، وهدم المساكن وترحيل السكان أو إنكار الحقوق الإنسانية البديهية.

هذا "المُركّب النفسي التكويني الإسرائيلي" لا ينبع فقط من تعامل الغرب الليّن المتساهل معها، ولا يستمد شرعيته من القناعة بـ"حصرية الضحية" فقط، بل تُغذيه وتؤجّجه عُقدة الشعور بالاستعلاء والتفوّق على الآخرين الذين هم وفق المشارب الفكرية التي ينهل منها قادة "إسرائيل" ومواطنوها "أغيار" دون مرتبة البشر.

فلا وخز ضمير ولا شعور بالذنب تجاه كل الأذى الشديد الذي تُلحقه بالآخرين، وهو ما يسمَحُ بتجاهل وضعها كقوة احتلالٍ أو كقوةٍ استعمارية قمعية. وعندما تكون القومية والكراهية وعدم التسامح تجاه الآخرين، والعنف تحت ستار "التهديد الوجودي" والتربية على "التفوق اليهودي"، جزءاً من السلوك الإسرائيلي اليومي، فإن النتيجة المتوقعة أن يميلَ الجمهور الإسرائيلي إلى التقليل من قيمة الثمن الذي دَفَعه الفلسطينيون والعرب، وما زالوا، مقابل حماية "الدولة اليهودية" واستمرار بقائها.

إن تدريب القلوب والعقول على قَبول إقصاء مجموعةٍ إنسانية جمعاء وإنكار حقوقها الأساسية، يُمهد الطريق لمزيدٍ من الفظائع، ويتسع نطاق مثل هذه الفظائع مع ازدياد جُرعات الشعور بـ"التهديد الوجودي" التي يتلقاها المُجتمع الإسرائيلي يومياً من أجهزة "الدولة" المختلفة. إن تضخيم التهديد المطروح والخداع في ما يتعلق بقدرة المقاومة، وعرض الوضع على أنه "خطرٌ وجودي" يخلق شرعيةً عامة لاستخدامٍ غير مُقيدٍ ومُفرطٍ للقوة.

إن تقديم التهديدات التي تواجهها "إسرائيل" بعد السابع من أكتوبر 2023، على أنها "خَطر إبادة" و "دفاعٌ عن الوجود"، أو "حرب قيامة" وفق التسمية الجديدة، يستدعي في مواجهتها اتخاذ إجراءاتٍ صارمة جداً تتناسب وطبيعة هذا التهديد! 

وبالعودة إلى قرار الجنائية الدولية، تدرك "إسرائيل" أن قرارات الهيئات والمنابر الدولية، بما فيها مذكرات الاعتقال الأخيرة "لن تمنعها من مواصلة جرائمها على أرض الواقع"، ومع ذلك، يُجن جنونها عندما يغرد أحدٌ خارج سربها أو يخالف سرديتها، فنراها، كما حال الطغاة مع النقد، تذهب إلى مزيد من السادية والتدمير والقتل بحق ضحاياها، وكأنها تقول لمنتقديها "سيدفعون من لحمهم ودمهم ثمناً لتجرؤكم على نقدنا".

بل يدعو بعض قادتها جهاراً نهاراً إلى مزيدٍ من التشديد والتضييق على الفلسطينيين كرد على محكمة الجنايات الدولية في تحدٍ فظ لكل المجتمع الدولي وقوانينه ومؤسساته.    

ولا يقتصر سلوك الاستعلاء والإقصاء الإسرائيلي هذا مع أعدائها أو مع العالم، بشقّيه، حلفائها وخصومها، بل تذهب إلى ممارسته مع مواطنيها في حال شقّوا عصا الطاعة، فلا تَسامُحَ مع من يخرج عن "الإجماع الإسرائيلي العام" ولو لفظياً، ولا مكان لمشاعر الرحمة أو التعاطف مع الأعداء، ولا مكان ليدٍ لا تقرع طبل الحرب حين يتعالى قَرعُ طبولها، ولا مكان لدعوة إلى التهدئة أو التسوية حين تستعر نار حربها التدميرية، فكما أن كل نقدٍ من العالم لـ "إسرائيل" هو "معاداة لا أخلاقية صريحة للسامية"، فكذا كل نقدٍ إسرائيلي داخلي هو تماهٍ مع الأعداء، وفاعله "يهودي كارهٌ لنفسه" مرتبته دنيئة وضعية لا تقل عن مرتبة "الأغيار" في نظر مجتمع مؤطرٍ مُجنّد يغني ترانيم الحرب ويقرع طبولها، ولمن يُفكر من الإسرائيليين بفعل ذلك عبرة بما حدث مع غالانت الذي لم يكن "حمامة سلام"، ومع ذلك لم تحتمل "إسرائيل" الرسمية "تغريده خارج السرب"، فأُقصي "ليكون لمن خَلفَهُ آية"! 

ثم ختاماً، ألستم تذكرون أن هذه "الدولة المُدللة" التي تضع نفسها فوق كل قانون، تشدّقت حين خرجت في حربها "الوجودية" الحالية، أنها خرجت نيابةً عن "العالم الحر المتنور" في مواجهة "الحيوانات البشرية" أو "القوى الظلامية الوحشية الشرقية"، ولولا ما فعلته "إسرائيل" "من أجل الإنسانية" لطالت يد "البربرية الهمجية الشرقية" كل الغرب المتنور! أوتستحق أن تُقابل بهذا "النُكران للجميل"، أوليس الذي يعتدي عليها وعلى رموزها، "مُعتدياً على البشرية جمعاء"، أليس إصدار مذكرات اعتقال بحق قادتها "اعتداء مشيناً صارخاً" و "يوماً أسود في تاريخ الإنسانية"! 

الواقع لا، لا يبدو الأمر كذلك، ويبدو أن هذه "الرواية البكائية" لم تصمد أمام قسوة الواقع الذي خلقته "إسرائيل" في غزة ولبنان والضفة الغربية، لكنها لا تريد أن تفهم أن هذا العالم بأغلبه لم يعد يرى بعينيها فقط أو يسمع ما تريده فقط، ولم يعد ينطلِ عليه "الدرس الأخلاقي" الذي يُقدّمه الثعلب في ثياب الواعظين!