Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

لا تضيعوا شيخ العشّاق..!.. أحمد جميل عزم

لا تضيعوا شيخ العشّاق..!.. أحمد جميل عزم

  قبل أيام، استمعت في مناسبة جامعية لتوضيح علمي لنظرية "أثر الفراشة".

في السياق الفلسطيني، يعرف الفلسطينيون "أثر الفراشة" من واقع شعر محمود درويش، وديوانه "أثر الفراشة"، وقوله "أثر الفراشة لا يُرى.. أثر الفراشة لا يزول".

كنت أعرف النظرية، لكني لم أكن أربطها يوماً بمصطلح درويش الشهير، المحفور على قبره، والمنقوش على فناجين قهوة بيضاء.

تتحدث "نظرية الفوضى"، وهي من فروع علم الرياضيات، عن كيفية حدوث ظواهر كونية كبرى، بداياتها صغيرة جداً. ويأمل أصحاب النظرية أن يصلوا لبرنامج كمبيوتر يحلل كل شيء يتحرك، ويسبب شيئاً آخر. مثلا، العلاقة بين سير السَحاب والغيم، وحركة الطير المهاجر. ففراشة تُحرِك جناحها في أميركا الجنوبية، قد تؤثر بالجو في حديقة في نيويورك؛ إذ إن الفراشة قد تحرك ورقة شجر، وورقة الشجر تُحرِك أوراقاً، ويتمادى ما يشبه أثر "الدومينو" المتنامي حتى تتحرك الرياح.

في قصيدة "أثر الفراشة"، كأنّ درويش يقول إنّ جبل الكرمل ثابتٌ عالياً، أمّا تحته فـ"يتنهد البحر"، فتنطلق موجة بعد موجة للعالم. تماماً كما قال سميح شقير في قصيدته "وقوفاً كالأشجار": "ارم حجراً في الماء الراكد تندلع الأنهار".

ظهرت نظرية "أثر الفراشة" على يد العالم الأميركي إدوارد لورنز العام 1961؛ أي، وبالصدفة، قبل سنوات من إعادة إطلاق الثورة الفلسطينية من قبل مغامرين، ليست لهم حينها قوة منظمة حقاً، في عالم من ثنائية الأقطاب والقوى النووية. وكان السؤال المؤرق: هل لعملية فدائية هنا، وتوزيع منشور هناك، وتنظيم حفلة دبكة، أن تُحدِث أثراً؟ وكانت الإجابة المقنعة، الشاعرية، غير الغريبة عن منطق الرياضيات: "الخطوة الكبيرة هي مجموع الخطوات الصغيرة".

خضر عدنان الإنسان المذهل، يقترب الآن من اليوم الستين لإضرابه عن الطعام. وتجارب الإضراب الإيرلندي مطلع الثمانينيات، والتي يمتنع فيها المضرب عن كل طعام وعن المدعمات الغذائية والحليب، تشير إلى أنّ الإنسان لا يصمد كثيراً بعد اليوم الستين.

لا يوجد رمز فلسطيني يحظى الآن بإجماع وطني، وتعاطف دولي، مثل خضر. وهو بلحيته الكثيفة، وانتمائه لحركة "الجهاد الإسلامي"، وسيرته الذاتية كصاحب درجة علميّة في الرياضيات، وصاحب مخبز يعمل فيه ويعتاش منه، يقدّم صورة متقدمة للإنسان المناضل الصامد، ولكن، وبشكل خاص، كلماته وتعابيره تشف عن روحه المذهلة.

خضر مشبعٌ، أدرك أم لم يُدرِك، بنظرية "أثر الفراشة"، يضيف لها إيمانه بالله، وأنّ لا شيء يحدث فوضوياً، بل وفق تيسير رباني.

لقد سرد يوم أطلق سراحه في 17 نيسان (إبريل) 2012، سلسلة مصادفات جعلت إطلاقه في هذا اليوم، الذي يصادف يوم الأسير الفلسطيني. وتحدث كثيراً، حينها وبعدها، عن "الحب".

من يتخيل شيخاً ثائراً، وسط اللغط "الداعشي"، يخرج مثلا في جنازة الشهيد محمد عصفور، من قرية عابود، فيخاطب الناس "ما أجملكم مسلمين ومسيحيين تخرجون ضد الاحتلال"؛ ويخطب أنّه سمع أثناء صلاة الشهيد "هديل حمامة.. تقول: وداعاً سيدي محمد.. وداعاً سيدي عرفات (حجازي)"؛ ويخبرهم: "بقوة الله سينتصر الدم على السيف"؛ كما يخبرهم: "اليوم نخرج حُباً وثورة وجهاداً وشهادةً، وحرية وعزة وكرامة..."؟

بدأ حديثه للجماهير المستقبِلة بعد الإفراج عنه العام 2012 بقوله: "أنا أحبكم أيها الأحباب". وفي خطاب آخر يصرخ إنّ "في عيون الجماهير حبّا قَهرَ الاحتلال".

شَكر خضر بعد خروجه المرة الماضية المرضى والأطباء وعمال النظافة العرب في المستشفى الذي كان فيه. وتحدّث عن أهالي "فلسطين المحتلة العام 48". وقال رأيتُ هناك "محبةً لا توصف، رأيتُ جبل الجرمق شامخاً يقول لي يا خضر إياك أن تركع، رأيت صفد، أرض كنعان، العروبة؛ سورية ولبنان، المرضى يحبوننا، الأطباء يحبوننا، عمال النظافة في المقدمة، أختٌ من "طوبا الزنغرية" (القرية القريبة من نهر الأردن غير البعيدة عن بحيرة طبرية)، أقول لها (سلّميلي) على إمام المسجد ودعيه يدعو لي، فترد "كل طوبا الزنغرية تدعو لك"، من قال لهم غير الله؟، من جعلهم يحبونا غير الله...؟".

كم يحتاج هذا العالم، كل العالم، محبة بحجم ما لدى الشيخ خضر! لعلّ هذه المحبة هي "أثر الفراشة" التي تصنع حب العالم له وتضامنه معه. ويبقى السؤال: هل يعقل أن نُضيّع مثل خضر عدنان وننظر إليه يغادرنا؟ هل يستمر احتراف التفريط؟