حسن لافي
التسريبات التي أوردتها القناة العاشرة الصهيونية، عن أن نتنياهو موافق على خطة مساعدات غير مسبوقة لغزة، تحضر لها كل من مصر والأمم المتحدة ، وأنه من المتوقّع عرضها على الحكومة الصهيونية للنقاش والتصويت، وخاصة بعدما تم نقاشها داخل مجلس الوزراء المُصغّر «الكابينت». قراءة هذا الخبر للوهلة الأولى قد تُطمئن سكان غزة ، ولكن إذا تم التمعّن به وبتفاصيله فإن الاطمئنان قد يعتريه الكثير من القلق والحذر، حيث إن مثل هذه التسريبات على المستوى البعيد يشرعن أيّ عدوان من الممكن أن تقوم به حكومة الاحتلال على غزّة، بل يخرجها من دائرة الاتهام، أو تحمّل المسؤولية، سواء داخلياً أمام جمهورها، الذي يعتقد حتى هذه اللحظة أن حكومته لم تطرق كل الأبواب لإبعاد شبح الحرب عنه، وأهمها خيار تحسين أوضاع سكان غزّة، كما أوصت بذلك المؤسّسة العسكرية للمستوى السياسي في الحكومة الصهيونية.
مَن تعمّد إخراج تلك التسريبات للإعلام الإسرائيلي، يُدرك بحنكة الخبرة السياسية أهمية الإعلام في بلورة الرأي العام الجماهيري، وخاصة أن خبر التسريبات خاطب العقلية اليهودية الصهيونية بمُصطلحٍ ذي دلالة عميقة في الشخصية الإسرائيلية «فرايريم» (نحن لسنا سُذّج) ، والذي جاء في سياق الشروط الإسرائيلية على المبادرة الإنسانية لغزّة، بمعنى أن التحسينات الحياتية لغزّة يجب أن تخدم المصلحة الإسرائيلية ، وإلا هذا سيكون نوعاً من السذاجة التي يأباها اليهودي الصهيوني في تعامله مع الآخر، خاصة أن الدعاية الصهيونية تنفي أية مسؤولية لدولة الاحتلال عن الأزمة الإنسانية في غزّة، بل تُحمّل مسؤولية تفجير الأزمة للفلسطينيين أنفسهم بالدرجة الأولى سواء السلطة في رام الله، التي فرضت عقوبات على غزة .
أو المقاومة في غزّة التي تستثمر الكثير من الأموال في الإعداد العسكري ضد الاحتلال، وبذلك تصبح شروط الحكومة الصهيونية بمُنتهى العدل والمنطق حسب العقل الصهيوني، وأن التنازل عنها من قِبَل الحكومة الصهيونية نوع من أنواع «الفرايريم» السذاجة. ولكي تكتمل عملية البرمجة الذهنية للداخل الصهيوني، ألمحت التسريبات بمُكر السياسة التحريرية الصحفية الموجّهة عن احتمالية رفض المقاومة في غزّة لتلك المبادرة ، وبذلك يصبح المسكوت عنه ، ولكنه يُفهَم ضمناً، أن الحرب على غزّة أصبحت لا بديل عنها ، بمعنى أنها باتت حرب شرعية، يجب على الكل الصهيوني وضع خلافاتهم الداخلية جانباً، والتجنّد لدعم الحكومة والجيش في حرب اللا بديل. أما على صعيد المجتمع الدولي، فتسعى دولة الاحتلال لإظهار أن الكرة الآن في ملعب غزّة، وألا معارضة لديها على مجهودات مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة للشرق الأوسط «نيكولا ميلادينوف» ، رغم أنها فعلياً وضعت شرطين من الصعوبة بمكان تحقيقهما فلسطينياً، الأول : رجوع السلطة لغزّة، وإدارتها لها كما في السابق، وتحمّلها لمسؤوليات غزة الإنسانية، فدولة الاحتلال تُدرك حسب متابعتها لملف المُصالحة تعقيدات ذلك، وحتى إن تمكّن الفلسطينيون من إتمام المُصالحة، فإن الإسرائيلي يريدها تأتي في سياقات الشروط التي تخدم المصلحة الصهيونية، وليس العكس.
لذلك نفهم دور الفيتو الصهيوني في إفشال المُصالحة في كثيرٍ من التجارب السابقة، الذي حاولت الحكومة الإسرائيلية في هذه المرحلة أن تسوّق في إعلامها أنها أزالته عن مساعي المُصالحة الفلسطينية الجديدة. الشرط الثاني: وقف المقاومة (العنف) من قِبَل فصائل المقاومة الفلسطينية، وهذا الشرط من الممكن التحكّم في تعريفه إسرائيلياً، سواء من حيث الكيف، الكمّ، النوع، الآليات، وغيرها ، حسب الحاجة الصهيونية، وبما يُناسب التطوّرات المُستقبلية للأحداث السياسية ، وبذلك تحفظ دولة الاحتلال لنفسها طريق انسحاب آمن من أيّ اتفاق أممي لا يُلبّي مصالحها، تحت حجّة حقّها في الحفاظ على أمنها من تهديدات المقاومة في غزّة. المهم في الموضوع ليس النقاش حول النفي أو التأكيد على أن هناك مبادرة إنسانية دولية لحل أزمة غزّة الإنسانية، لكن المهم هو الإدراك أن تلك التسريبات الإعلامية، تشير إلى مُحدّدات استراتيجية الحكومة الصهيونية بالتعامل مع أزمات غزّة الإنسانية، وأسلوب تعاملها مع الحلول الدولية الساعية للتخفيف من أزمات غزّة الإنسانية، والتي يمكن حصرها في عنوانين أساسيين هما: أولاً.
حفظ أمن دولة الاحتلال، بمعنى إنهاء المقاومة في غزّة، أو تحوّلها لقوّة شرطية لإدارة حُكمٍ ذاتي، بعيداً عن الحديث عن أيّ مشروع سياسي يؤدّي إلى كيانية سيادية فلسطينية. ثانياً. الإصرار الصهيوني على عدم دفع تكلفة احتلاله لمليوني فلسطيني في غزّة، مع إبقاء قدرته في التحكّم بحياتهم بكل مناحيها وتفاصيلها الحياتية والمعيشية، وذلك التفاف خطير على الحق الفلسطيني برفع الحصار الكامل عن غزّة. الخطير في الأمر، أن حكومة نتنياهو تسعى إلى أن تكون الرابح الأكبر في ظلّ أيّ رد فلسطيني على تلك المبادرات، بما في ذلك الرفض، ولكن ذلك مازال في دائرة المساعي الصهيونية الطموحة بعيداً عن موضوعية ميدان المواجهة، الذي رغم صعوبة الوضع الفلسطيني إلا أنه استطاع إيصال صوت غزّة إلى العالم بأسره، وأجبر وزير حرب الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ دولة الاحتلال، أن يتحدّث عن تآكل قوّة الردع أمام غزة، والاعتراف بالإرباك أمام فعل مسيرات العودة وكسر الحصار.