بقلم: راسم عبيدات
منذ الغزوة الصهيونية الأولى لفلسطين عام 1882 وجوهر الصراع مع المحتل القائم والمستمر يدور على الأرض، تلك الأرض التي نجح العدو في إحتلالها بدعم إستعماري غربي، وجد ضالته في زرع هذا العدو في قلب الأمة العربية، كأداة لضرب أي حالة نهوض أو وحدة عربية تهدد مصالحه واهدافه في المنطقة، وبإحتلال العدو لهذه الأرض، نجح في طرد وتشريد أكثر من نصف شعبنا وأحل محلهم المستوطنين، بعد أن دمر أكثر من 531 قرية ومدينة فلسطينية، معتقداً وواهماً بأن ذلك سيمكنه من السيطرة على فلسطين كلها، وينهي وجود شعبها.
وكان قادة الإحتلال من بن غوريون وصولاً الى نتنياهو وليبرمان وبينت يحلمون بأن كبار شعبنا سيموتون وصغارنا سينسون، ولكن هذا الحلم الذي ظل يراود قادة الحركة الصهيونية والدولة العبرية، رغم إحتلال كامل مساحة فلسطين التاريخية، لم يتحقق، وايضاً ورغم كل مشاريع التهويد والإقتلاع والتشريد التي مارستها بحق شعبنا الفلسطيني، فهذا الشعب متشبث بأرضه وحقه التاريخي في الوجود عليها، وهو لن يسمح بأن يشرد ويطرد من أرضه من جديد، ولن يذوب او يتبخر، بل سيبقى يقاوم المشروع الصهيوني، ما دام يستهدفه بالإقتلاع والطرد والتشريد والتطهير العرقي.
الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة اعتبرت الإستيطان ثابت من ثوابت برامجها، ولم تجرؤ أي قيادة او حكومة إسرائيلية أن تقترب من هذا " التابو"، فوجودها قائم على تكثيف الإستيطان وتصعيده في كامل فلسطين التاريخية، ومن يقول بوقف الإستيطان او تفكيك ليس مستوطنات قائمة، بل بؤر إستيطانية معزولة يقدم المستوطنين على إسقاطه.
القدس كانت حلقة مركزية من حلقات الصراع مع المحتل الصهيوني، والذي شرع بضمها عقب إستكمال إحتلال فلسطين التاريخية بعد حرب عام 1967، تحت شعار أن "اورشليم هي العاصمة الأبدية لدولة الاحتلال»، وضمن هذه الرؤيا والإستراتيجية، إستهدفت المدينة من أجل إحكام السيطرة وتثبيت السيادة الإسرائيلية عليها، بتكثيف الإستيطان الصهيوني فيها، وليس فقط في الشطر الغربي منها، بل بإقامة بؤر إستيطانية في قلب احيائها العربية، اكبرها البؤرة الإستيطانية "نوف تسيون" في قلب قرية جبل المكبر.
رغم كل إجراءات التهويد والطرد والتطهير العرقي التي مورست وما زالت تمارس بحق العرب المقدسيين في المدينة، فإنها لم تنجح كثيراً في قلب الواقع الديمغرافي في المدينة لصالح المستوطنين، وبقي الفلسطينيون العرب يشكلون نسبة 37% من مجموع سكان المدينة، ولذلك تغيير المشهد المقدسي وفرض رواية صهيونية مزورة على مسار التاريخ، يحتاج الى استراتيجية جديدة تقوم على السيطرة على اكبر مساحة أرض في المدينة وأقل عدد من السكان العرب، ولذلك طرحت عدة مشاريع ومخططات للإنفصال عن سكان القدس الشرقية، او فرض القوانين العسكرية الإسرائيلية على القرى والبلدات المقدسية الواقعة خلف جدار الفصل العنصري.
المحتل أغرق المدينة ب" تسونامي" إستيطاني، واجراءاته القمعية والتنكيلية بحق السكان المقدسيين، بلغت حد الطغيان و" التغول" و" التوحش"وطورد المقدسيون في أدق تفاصيل حياتهم اليومية، ولكن كل ذلك لم يمكن من كسر إرادتهم وفض عضدهم وتطويعهم وطردهم، بل كانوا يزدادون تمسكاً وتشبثاً بوجودهم وبقائهم في قدسهم وعلى أرضهم.
بعد تولي الرئيس الأمريكي اليميني ترامب وفريقه المتصهين للحكم في أمريكا في أوائل عام 2017، وجدت القيادة الصهيونية، بأن هناك فرصة تاريخية، تمكنها من شطب وتصفية القضية الفلسطينية ومشروعها الوطني، وأولى حلقات ذلك القدس، ولذلك مارست الضغط على الرئيس الأمريكي لكي يعترف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال وينقل السفارة الأمريكية من تل أبيب الى مدينة القدس، ضمن مشروع ما يسمى بصفقة القرن الأمريكية لتصفية القضية الفلسطينية.
وبعدما تحقق ذلك لدولة الاحتلال عمدت الى محاولة الإستثمار السياسي للقرار الأمريكي، بما يثبت شرعية إحتلالها للمدينة، وبما يجرد العرب المقدسيين من حقوهم في أرضهم ومقدساتهم، وضمن ذلك المخطط أقروا جملة من القوانين والتشريعات العنصرية، التي تعتبر القدس عاصمتهم الموحدة وبأنه ممنوع التنازل في أي تسوية سياسية قادمة عن أي جزء منها، لسلطة أجنبية، والمقصود هنا السلطة الفلسطينية، وعملوا على توسيع حدود مدينة القدس، لكي تصبح 10% من مساحة الضفة الغربية، وبما يشمل ضم التجمعات الإستيطانية اليها من جنوب غرب القدس، مجمع مستوطنات" غوش عتصيون" الى شمال شرقها، تجمع مستوطنات " معاليه ادوميم"، وبما يعني هذا من ضخ ل 150 ألف مستوطن للمدينة، وطرد اكثر من 100 ألف فلسطيني مقدسي، وبما يقلب الواقع والميزان الديمغرافي لصالح المستوطنين في المدينة.
وتحقيق هذا الحلم يحتاج الى إقتلاع الوجود البشري الفلسطيني في منطقة الخان الأحمر، حيث تعيش التجمعات البدوية الفلسطينية المهجرة من تل عراد في بئر السبع منذ 1953، لأن هذا الإقتلاع والتهجير للتجمعات البدوية هناك، والتي تعرضت أكثر من مرة لعمليات طرد وتهجير وإقتلاع على يد جيش الاحتلال الصهيوني، يغلق البوابة الشرقية لمدينة القدس بالكامل، ويشطر ويفصل الضفة الغربية شمالها عن جنوبها، ويحول الضفة الغربية الى "كنتونات" معزولة، وبما يشطب أي إمكانية للدولة الفلسطينية.
وهذا يتطلب الإستيلاء على الأراضي في المنطقة المسماة (E1)، والتي تبلغ مساحتها 12 ألف دونم، ولتحقيق هذا الغرض، لا بد من من طرد وإقتلاع التجمعات البدوية هناك، تجمع أبو نوار والخان الأحمر، معتقدأً وواهماً المحتل، بأن عمليات الطرد والإخلاء ستكون سهلة، وبأن قواته كبيرة العدد والمتوحشة، وما تملكه من إمكانيات وقدرات كبيرة، ستحدث صدمة عند سكان تلك التجمعات، وستنال من معنوياتهم، ولكن في الواقع الميداني أثبت أبناء شعبنا من الفلسطينيين من البدو، بأنهم يموتون ولا يرحلون، ومشاهد القمع والتنكيل التي مورست بحق أهلنا وشعبنا هناك، أظهرت ليس فقط مدى وحشية هذا الاحتلال، بل سجلت نساء شعبنا حالات صمود أسطورية، وملاحم بطولية في سفر النضال الوطني الفلسطيني، في تصديهن لجيش الاحتلال الصهيوني، هذا الصمود لسكان التجمعات البدوية والإسناد والدعم الشعبي المتواصل، شكل عاملاً ضاغطاً على ما يسمى بمحكمة العدل العليا الاسرائيلية، والتي اتخذت القرار بالهدم في 25/5/2018، لكي تقبل تأجيل الهدم حتى 11/7/2018، بناء على الطعن والإستئناف المقدم، من لجنة محامي هيئة مقاومة الجدار والإستيطان.
ولكن واضح بان ما يجري من خطوات على الأرض من تسوية للأرض ونصب "كرفانات" في المنطقة التي سيجري تهجير سكان الخان الأحمر اليها، بأن الاحتلال ولأهداف سياسية مصمم على إقتلاعهم وطردهم وتهجيرهم.
هذا الشعب المضحي والمالك لإرادته، لو توفرت له الدعم والمساندة عربياً وإسلامياً ومن كافة الفصائل بحجم نضالاته وتضحياته، لصنع الشيء الكثير الكثير، وكذلك هذا الصمود الأسطوري يكشف بشكل جلي عن عورة النظام الرسمي العربي المتعفن، والذي عقد آخر قمة في السعودية، وسميت باسم القدس ولم تقدم أي دعم حقيقي للقدس، بل لسان حال المقدسيين يقول " تتآمرون على القدس، وتشاركون فيما يسمى بصفقة القرن الأمريكي لشطبها وتهويدها وتتباكون في العلن عليها، وفي السر جزء من المؤامرة عليها"، بل أصبحتم لا تخجلون من تطبيع علاقاتكم وتشريعها مع دولة الاحتلال علناً، وعلى حساب حقوق شعبنا المشروعة، والقول بأن إسرائيل لم تعد عدوتكم، وها هي ماجدات فلسطين والخان الأحمر تعرين كل الانظمة الفاسدة والمتعفنة، وتثبت أنكم جزء من المؤامرة على القدس.