أمجد أحمد جبريل
مع حلول الذكرى السبعين لنكبة فلسطين، يدخل الصراع على القدس مرحلةً جديدة؛ إذ تسعى حكومة اليمين الإسرائيلي، بقيادة بنيامين نتنياهو، إلى إنجاز ما تبقى من مخططات تهويد القدس، وفرض الحل النهائي كما تريده على الأرض، في استثمار ممنهج لوجود الرئيس الأميركي دونالد ترامب في البيت الأبيض، الذي قرّر في 6 ديسمبر/ كانون الأول الماضي الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل.
وإذ تبلغ سياسات المحور الأميركي/ الإسرائيلي ذروتها في تهويد القدس، وتغيير واقعها الديمغرافي والسياسي والثقافي، تكون قد بدأت مرحلة "الحصاد والنهايات"، في عمليةٍ مدروسة من إدارة الصراع مع الطرف الرسمي الفلسطيني/ العربي الذي يكاد يخرج خالي الوفاض تماماً، بعد أن تم إنهاكه على مدى عقود في دهاليز التفاوض السري والعلني، وجرّه إلى أحابيل "التطبيع" مع إسرائيل على كل الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية، وأخطرها التطبيع الاستراتيجي والأمني، حتى يرى العرب "المخاطر والمصالح"، مثلما تراهما إسرائيل، سواء في عداواتها أم صداقاتها، وبذلك تضيع مصالحهم، وتتحقق مصالح أعدائهم.
في هذه المرحلة الجديدة، تبدي إدارة ترامب تصميماً على نقل السفارة الأميركية إلى القدس منتصف مايو/ أيار الجاري، في استخفافٍ تام بالمواقف الرسمية الفلسطينية والعربية والإسلامية. وعلى الرغم من إعلان البيت الأبيض أن ترامب لن يحضر بنفسه حفل افتتاح السفارة، فإن وفداً رئاسياً سيقوم بالمهمة، فضلاً عن خطاب متلفز سيلقيه ترامب في هذه المناسبة، إضافة إلى الحضور المتوقع من سفراء الدول الأخرى التي تسير في ركاب واشنطن، وتحرص على إرضائها.
وعلى الرغم من خطورة هذه التطورات وتداعياتها على القدس وفلسطين والمصالح العربية، تتوالى إشارات تطبيع عربي مع إسرائيل التي تجرأت على الاحتفال علناً بذكرى تأسيسها السبعين في قلب مصر، أكبر دولة عربية. أما البحرين، وهي أصغر الدول العربية مساحةً، فلم يخجل وزير خارجيتها من الجهر بـ "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، في مواجهة التهديدات الإيرانية. وبهذا تزج المنامة نفسها في أتون تناوش إيراني - إسرائيلي، من دون أن يعرف أحدٌ ما هو المقابل. وذلك في صراع على أرض سورية عربية، وفي قضيةٍ لم يعد للعرب أي تأثير حقيقي فيها، بعد أن تحولت صراعاً إقليمياً دولياً يستهدف إعادة تشكيل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، على حساب المصالح العربية.
أما ثالثة الأثافي في إطار التطبيع العربي مع إسرائيل، فهي مشاركة رياضيين إماراتيين وبحرينيين في سباق الدراجات الهوائية "جيرو دي إيطاليا"، الذي انطلق من نقطة قريبة من أسوار البلدة القديمة في القدس الشرقية.
ليس مستغربا طبعاً أن "توظّف" إسرائيلُ الفعالياتِ الرياضية الدولية التي تحظى بمتابعة ملايين المشاهدين واهتمامهم. وهي مَن اشتهر دائماً باستخدام كل أداة - من الثقافة، إلى السياحة، إلى تزييف التاريخ، وسرقة الآثار والرموز، وانتحال الفلكلور الشعبي، وتغيير أسماء الشوارع والمدن الفلسطينية إلى أخرى إسرائيلية .. إلخ، في ترويج "السردية أو الرواية الصهيونية"، وتعميم المصطلحات الإسرائيلية المضلّلة بشأن القدس وسائر الأراضي الفلسطينية المحتلة. إنما الغريب حقاً هو حجم التناقض في الموقف الرسمي العربي. فلماذا "الخطابة عن الحق العربي في القدس"، إذا كان السلوك الفعلي يريد "التطبيع" مع إسرائيل، على الرغم من إنكارها أي حق لغيرها في مدينة السلام؟
وقد أكدت القمة العربية التاسعة والعشرون في البند الأول لبيانها الختامي الصادر في 15 إبريل/ نيسان الماضي، "على مركزية قضية فلسطين للعرب، وعلى الهوية العربية للقدس الشرقية المحتلة، عاصمة دولة فلسطين". كما لا يزال غضّاً "إعلان دكا" لمجلس وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي الصادر في 6 مايو/ أيار الجاري، والذي أسهب في تأكيد أهمية القضية الفلسطينية والقدس الشريف للأمة، وأطنب في إدانة قرار واشنطن بشأن القدس، وانتهاكات إسرائيل الجسيمة للقانون الدولي.
بيد أن الأهم من سياسات المحور الأميركي/ الإسرائيلي وتطبيع الديكتاتوريات العربية معه، وتضعضع المواقف الرسمية العربية والإسلامية من قضية القدس، أن مرحلة "الحصاد والنهايات" تشهد بداية تحوّل في الفعل الشعبي الفلسطيني أيضاً، كما يتجسّد في ثلاثة مظاهر أساسية:
أولها "هَبّة القدس" المستمرة منذ خمسة أشهر ضد قرار ترامب، والتي حظيت بتجاوب جيد من الشعوب العربية والإسلامية. وثانيها "مسيرات العودة" التي انتظمت في إحياء "ثورية" يوم الجمعة منذ 30 مارس/ آذار، في سبعة أسابيع متتالية، تمهيداً لإحياء ذكرى نكبة فلسطين؛ فأظهرت بذلك قدرةً عالية على تفعيل نمط من النضال الجماهيري الفعّال الذي يعكس ألواناً من الإبداع الجماعي/ الشبابي تكاد تستلهم نموذج انتفاضة 1987، بكل مميزاته. وثالثها هو المظاهرة التي دعت إليها "لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إسرائيل"، وقوى وطنية ومرجعيات دينية، في حي أرنونا، احتجاجاً على نقل السفارة الأميركية وحفل افتتاحها، ما يؤكّد الدور الريادي لفلسطينيي 48، في الدفاع عن الحق الفلسطيني في القدس.
غاية القول إن الصراع على القدس ومصير الثورات العربية وهوية المنطقة ومستقبلها لم يحسم لمصلحة المحور الأميركي/ الإسرائيلي وحلف الديكتاتوريات العربية. بل ربما هناك مؤشرات تعاكس هذا الاستنتاج تماماً؛ إذ يأخذ هذا الصراع بالتدريج طابعاً رمزياً يتعلق بذاكرة الشعوب ووعيها بحقوقها وتاريخها وهويتها، بما يزيد من فرص حضور العامل الشعبي، وتعزيز ثقافة المقاومة ومضاعفة تأثيرها في مجرى الصراع.
باختصار، ستخطف احتفالية نقل السفارة الأميركية إلى القدس الأبصار ساعاتٍ وربما أياماً، وسيهنأ الإسرائيليون باعتراف واشنطن بمطالباتهم ومقارباتهم تجاه المنطقة عموماً، والملف النووي الإيراني خصوصاً، غير أن الفعل الشعبي الفلسطيني مؤهلٌ للاستمرار، على الرغم من كل التراجعات الرسمية.
إن عاجلاً أم آجلاً، يجب أن تعمل قوى التغيير والثورات في العالم العربي على بلورة مشروع مضاد، واستراتيجية واضحة ذات أبعاد مختلفة على المستويين، الرسمي والشعبي، يكون هدفها الأساسي تعزيز صمود المقدسين بخاصة، والفلسطينيين والعرب بعامة، في وجه السياسات والممارسات الإسرائيلية، والانحياز الأميركي اللامحدود. وذلك لمواجهة تسلط العامل الخارجي الدولي وتدخلاته، في هذه المرحلة الجديدة من الصراع العربي - الإسرائيلي الممتد الذي بدأ يتحول إلى "صراع إرادات وشعوب"، بعد أن أخلَت النظم العربية الساحة للفعل الإسرائيلي/ الأميركي.