نبيل السهلي
تستغل إسرائيل إلى أبعد حد عملية نقل السفارة الأميركية إلى القدس وتحولات المشهد العربي الضبابي، لفرض واقع تهويدي ديموغرافي على الأرض في المدينة، وذلك من خلال سياسة الترانسفير الصامت ضد العرب المقدسيين. ومن الناحية العملية وضعت مخططات إسرائيلية تستهدف جعل اليهود أكثرية ساحقة في الجزء الشرقي من القدس المحتلة عام 1967، بحيث ستعتمد الزيادة المقترحة لليهود في المدينة على استيعاب اليهود القادمين من الخارج، عبر محاولات فتح قنوات للهجرة اليهودية الكثيفة بعد تراجعها من الدول الأوروبية. هذا فضلاً عن الإعلان عن مغريات مالية إسرائيلية لرفع عدد الولادات للمرأة اليهودية المستوطنة في القدس، وذلك بغية ارتفاع معدلات الزيادة الطبيعية لليهود في شكل عام.
وفي الوقت نفسه تسعى إسرائيل إلى زيادة عدد لليهود في مدينة القدس وفق المخططات الإسرائيلية عبر سياسات إجلائية مبرمجة إزاء العرب المقدسيين، لترحيلهم بصمت عنها عبر إبطال شرعية إقامتهم في مدينتهم، الأمر الذي سيؤدي إلى الإخلال بالتوازن الديموغرافي لصالح المستوطنين اليهود بالمدينة في المدى المنظور. وقد اتبعت المؤسسة الإسرائيلية إجراءات عديدة من أجل دفع العرب المقدسيين (من مسلمين ومسيحيين) إلى خارج مدينة القدس، ومن بين تلك الإجراءات التي تجعل المقدسي يفقد هويته: إذا عاش الفلسطيني المقدسي خارج القدس لمدة سبع سنوات متتالية، أو إذا حصل على جنسية أخرى، وكذلك إذا سجل إقامته في بلد آخر.
وتبعاً لتلك الحالات فإن دراسات مختلفة تقدر عدد العرب في القدس المعرضين لفقدان بطاقة الهوية العائدة لهم بنحو ستين ألف عربي، وهذا يعني ترحيلهم من مدينة القدس أو بقاءهم خارجها. واللافت للنظر أن كافة الإجراءات الإسرائيلية لترحيل عرب القدس وضعت وفق أحكام «القانون الإسرائيلي» الدقيق والمخططة سلفاً، فصاحب الأرض- ووفقاً لنسق تطور الملكية والسكان- معرض في أي لحظة لسلب حقه وإقامته، بينما يكفي لليهودي الآتي من دول العالم المختلفة أن يعلن نية القدوم إلى فلسطين حتى يصبح مواطنا في القدس، ولا يفقدها حتى لو غاب سبع سنوات، أو سبعين سنة، أو حمل جنسية أخرى، على عكس العربي صاحب الأرض الذي تفرض عليه قوانين إسرائيلية جائرة، لاستلاب أرضه وتهويدها بكافة الوسائل، خاصة عبر مصادرة مزيد من الأراضي في القدس وبناء المستوطنات عليها لتلف المدينة من كافة الاتجاهات وتعزلها عن باقي المدن والقرى في الضفة الفلسطينية.
ومن الأهمية الإشارة إلى أن كافة الحفريات وعمليات التجريف التي لم تتوقف البتة في باب المغاربة ومحيط المسجد الأقصى المبارك، وكذلك في حي سلوان، إنما تخدم الأهداف الإستراتيجية الإسرائيلية التهويدية في مدينة القدس، في وقت لم تظهر فيه إلى العلن سياسة عربية وإسلامية جامعة لمواجهة السياسات والإجراءات الإسرائيلية في مدينة القدس. وتبعاً للسياسات الإسرائيلية الاستيطانية التهويدية في مدينة القدس، بات بمدينة القدس 26 مستوطنة إسرائيلية يتركز فيها مائتا ألف مستوطن من اليهود المتزمتين. وفي مقابل ذلك لا يزال في المدينة ثلاثمائة ألف مقدسي، حيث تسعى المؤسسة الإسرائيلية إلى طرد أغلبيتهم بعد السيطرة على النسبة الكبرى من أراضي القدس.
وفي هذا السياق، ثمة دراسات إسرائيلية أشارت إلى أن إسرائيل تسعى من وراء إصدار القوانين المتلاحقة في شأن القدس لجعل المقدسيين أصحاب الأرض أقلية لا تتجاوز نسبتها 12 % من إجمالي سكان مدينة القدس بقسميها الشرقي والغربي، بحلول عام 2020. وإضافة إلى القوانين العنصرية المذكورة، اعتمدت المؤسسة الإسرائيلية سلاح الهدم والنشاطات الاستيطانية في مدينة القدس ضمن برنامج مدروس لتقليص وجود الفلسطينيين. وفي هذا السياق يعتبر الجدار العازل من أهم النشاطات الاستيطانية في القدس، وأدى حتى اللحظة إلى سلخ نحو (130) ألف فلسطيني مقدسي عنها، بينما تهدد المؤسسة الإسرائيلية بسحب الإقامة منهم. وبالتوازي مع الهدم والتهجير والاستيطان، تواصل المؤسسة الإسرائيلية المشاريع العمرانية وضم الكتل الاستيطانية لفرض أغلبية يهودية بالقدس المحتلة.
وتقدر دراسات مجموع سكان القدس من اليهود بنحو تسعمائة ألف يهودي خلال العام الحالي 2018، منهم مائتا ألف مستوطن يهودي في القدس الشرقية التي تضم نحو 48 ألف وحدة سكنية للفلسطينيين، حيث صدرت أوامر بهدم 22 ألفاً منها في الآونة الأخيرة. واللافت للمتابع أن المؤسسة الإسرائيلية تستغل أجواء نقل السفارة الأميركية من تل أبيب الى القدس وتحولات المشهد العربي وحالة الانقسام الفلسطيني، لتمرير مخططاتها بتصعيد وتيرة الهدم والاستيطان ومصادرة مزيد من الأرض والعقارات والمحال التجارية في مدينة القدس.
وفي إطار سياساتها التهويدية بمدينة القدس، كثفت المؤسسة الإسرائيلية من مخططاتها لفرض الأمر الواقع الديموغرافي الإحلالي التهويدي في مدينة القدس، ومنها مخطط للقيام بعمليات جرف وإزالة آلاف المنازل، بغية كسر التجمع العربي داخل الأحياء العربية بمدينة القدس، مثل حي الشيخ جراح والعيزرية. ونتيجة تلك المخططات ثمة 35 ألف مقدسي مهددون بالطرد إلى خارج مدينة القدس. وبعد إصدار القانون الإسرائيلي القاضي بتهويد قطاع التعليم العربي في مدينة القدس، خاصة في المرحلتين الابتدائية والإعدادية، فإن شبح الترانسفير لا يزال يلاحق ثلاثين ألف فلسطيني من القدس للحصول على فرص التعليم في بقية مدن وقرى الضفة الفلسطينية المحتلة.
وكانت (إسرائيل) طردت 15 ألف مقدسي أثناء احتلالها القدس الشرقية عام 1967، وقبل ذلك تم طرد ستين ألف مقدسي عام 1948 بعد ارتكاب مجازر مروعة في العام المذكور في قرى القدس، وفي شكل خاص في قرية دير ياسين التي ارتكبت بحق أهلها مجزرة مروعة في شهر أبريل (نيسان) من العام المذكور على يد العصابات الصهيونية. وتستمر حكومة نتانياهو في تسارع مع الزمن في محاصرة مدينة القدس بالجدار العازل. وتشير تقارير إلى أن عمليات البناء في الجدار المذكور حول المدينة المقدسة باتت في نهاياتها، حيث لم يتبقَ من عمليات إتمام الجدار حول القدس سوى خمسين كيلومتراً طولياً من أصل 165 كيلو متراً، سيتم من خلالها عزل مدينة القدس ديموغرافياً وجغرافياً عن محيطها العربي في الضفة الغربية.
تحتم الضرورة محاصرة التداعيات الديموغرافية التهويدية المحتملة لنقل السفارة الأميركية إلى القدس، وفضح السياسات والإجراءات الإسرائيلية بمدينة القدس، من خلال نشر ملفات وثائقية في وسائل الإعلام العربية وغير العربية، بحيث تظهر من خلالها في شكل دوري الإجراءات الإسرائيلية الحثيثة الهادفة إلى طرد المقدسيين. ناهيك عن ضرورة العمل العربي والإسلامي المشترك في الحقل الدبلوماسي والسياسي، ومطالبة الأمم المتحدة والمنظمات المنبثقة عنها بإصدار قرار رافض لنقل السفارة الأميركية والحث على تطبيق القرارات الدولية الخاصة بقضية القدس، وفي المقدمة منها تلك التي أكدت ضرورة إلغاء الاستيطان الإسرائيلي في القدس وبطلانه، وكذلك رفض التغيرات الديموغرافية القسرية، والعمل على عودة المقدسيين الذين نزحوا عن المدينة خلال سنوات الاحتلال الماضية. ومن شأن هذا أن يعزز الخطوات لتثبيت المقدسيين في أرضهم ومحالهم وعقاراتهم، وبالتالي تفويت الفرصة على المؤسسة الإسرائيلية لفرض الأمر الواقع التهويدي على مدينة القدس عبر الطرد الصامت للمقدسيين، فالمؤسسة الإسرائيلية تستغل الانحياز الأميركي للتصورات الإسرائيلية، لتمرير مخططاتها الإجلائية بتصعيد وتيرة الهدم والاستيطان في آن معاً لفرض ديموغرافيا تهويدية في القدس.