حسين حجازي
هل بدأنا نشهد في هذه الأيام ولو متأخراً ما يمكن اعتباره بداية العمليات التاريخية وليس مجرد حدث لما يمكن ان نصفه تدفيع الاحتلال الإسرائيلي الذي تطاول أكثر مما يمكن احتماله في الزمن ثمن هذا الاحتلال او غرور وغطرسة القوة؟ وهكذا كان ينبغي ان نستمع الى التوبيخ العلني ولكن المشترك وربما غير المسبوق من لدن زعماء أوروبا الثلاثة، ايمانويل ماكرون والسيدتين إنجيلا ميركل وتيريزا ماي لهذا الضيف بنيامين نتنياهو، الذي لم تعد دولته تثير إعجاب الغرب. لكي نتحقق من حقيقة هذا التحول في التعامل الدولي مع إسرائيل.
ورأوا في نهاية الأسبوع الماضي وهم غير مصدقين ما يحدث حولهم، ان في اتخاذ الأرجنتين هناك بعيداً من أميركا اللاتينية القرار برفض إجراء مباراة رياضية مع فريقهم في القدس، ان هذا يشبه الكارثة السياسية او كما وصفته إحدى صحفهم بتعبير شهير من رياضة كرة القدم بـ «ركلة في القلب». ولكن من دون ان يستدعي ذلك الشعور بضرورة القيام بمراجعة تاريخية للسياسات التي ما برحوا يواصلون انتهاجها. فان بنيامين نتنياهو الذي هو نفسه اكثر من عمل على إيصال إسرائيل الى هذا الوضع، هو الذي سوف يحذر الإسرائيليين كمن يحاول مستبقاً العواصف القادمة، بأنه هو من قال ان هذا ما سيحدث، وهو الموقف الذي ينطبق عليه القول «عذر اقبح من ذنب».
وما قاله انه بعد إلغاء الأرجنتين المباراة في القدس، قد تقدم دول أُخرى او أشخاص او مجموعات وجمعيات على إلغاء حفلات او المشاركة في مناسبات فنية في إسرائيل. وكان يلمح بذلك الى احتمال رفض مسابقة الأغنية الأوروبية الشهيرة بتقديم عرضها السنوي المقبل في ضيافة إسرائيل أي في القدس كما يرغبون، فيما يشبه التوسل امام العالم المصادقة على اعتبار القدس عاصمة لاسرائيل، ولكن دون جدوى.
واذ حدثت هذه التطورات في وقت متزامن مع مرور ذكرى رمزية ولكن ذات دلالة ترافقها هذه الأحداث، أي في الذكرى الواحدة والخمسين لاحتلال إسرائيل في حرب حزيران 1967 للضفة الغربية وغزة، فلعلهم يبدؤون في إدراك حقيقة ان احتلالهم لن يكون استثناءً في التاريخ عن جميع هذه النزوات المهلكة التي إنقاد إليها غزاة ومستعمرون سابقاً، وانه لا يوجد ولن يوجد بأي حال احتلال ارض وشعب آخر دون ثمن او بلا كلفة باهظة مهما طال الزمن، بل بسبب هذه الاستطالة في الزمن.
وان اسرائيل الاحتلالية التي أدمنت او احترفت هذه الألاعيب والالهيات التي تحدث عنها احد كبار جنرالات هذا الاحتلال قبل مدة، من قبيل النقد الذاتي عن هذه المناورات في كل شيء وبأي شيء لإطالة امد هذا الاحتلال. ان الألاعيب لا تشكل استراتيجية وان ما يبدو واضحاً الآن ان هذا الاحتلال يواجه او يصطدم اليوم بطريق مسدود، اذا كان التذاكي الاسرائيلي لم يستطيع ان يقهر عناد الفلسطينيين.
والواقع ان علينا ان نلاحظ ان هذه الزيارة التي قام بها نتنياهو الى الدول الثلاث الكبرى الاوروبية، هي افشل زيارة قام بها الرجل او حتى من سبقوه قبل الآن. حيث بدت دماء الغزيين والقضية الفلسطينية على نفس المستوى من اهتمام الأوروبيين من قضية إيران التي جاء نتنياهو لتحريض الأوروبيين عليها، ولكنه لم يحصل على مبتغاه.
وان هذا الفشل السياسي كان متوقعاً اذا علمنا في وقت سابق ان أوروبا قد حذرت الرجل في دلالة لا تخفى عواقبها بكلام واضح، من مواصلة إسرائيل السير في هذه الطريق باختيار الانحياز لدونالد ترامب، حين بعثوا رسالة مفادها ان ترامب زائل وسوف يرحل لكن أوروبا هي الباقية. وكان التذكير الأوروبي بهذه الجدلية في معادلة العلاقة بين ما هو ثابت وما هو طارئ او متغير، بمثابة توجيه درس واضح لنتنياهو يعبر عن شعور الأوروبيين بما هو أكثر من الانزعاج من هذا التحالف الثنائي بين الرجلين، والذي ترى إليه أوروبا انه ضد مصالحها الاستراتيجية. وأنها في غمرة هذا الصدام مع إدارة ترامب لا يمكنها مسامحة إسرائيل او الغفران لها مستقبلاً على هذا الخطأ.
وتبدأ مثل هذه العملية أولا في تغيير لغة الخطاب الواضح حينما يكون التعارض او التضارب في المصالح بين الطرفين لم يعد ممكناً الاكتفاء بالتعبير عنه في الغرف المغلقة أي بالهمس، وان هذا التعارض بات يتطلب قدراً من ممارسة الضغط العلني او الصراحة القاسية او الجافة، من اجل الضغط على هذا الطرف لتغيير مواقفه او سلوكه.
وهكذا سوف يقول الرئيس الفرنسي في المؤتمر الصحافي أمام الضيف الإسرائيلي بلغة واضحة، ان هذه الاحتفالات يوم الرابع عشر من أيار بنقل السفارة الأميركية الى القدس كانت مغمسة بالعار او ترافقت مع سفك دماء الفلسطينيين الأبرياء على حدود غزة. وسوف تُسمِع تيريزا ماي الضيف نفسه ان غزة في صلب المحادثات، وان ما جرى لا يمكن ان يكون مقبولاً وان هناك حاجة للتحقيق فيما جرى، واذا كان من حق اسرائيل الدفاع عن نفسها فليس من حقها قتل المتظاهرين على حدود غزة. والكلام نفسه الذي سمعه نتنياهو في باريس ولندن سمعه في ألمانيا.
وغالباً ما يترافق مع هذا الضيق او الملل من سلوك ومواقف هذا الطرف المقابل، مع التعديلات التي تعيد تكييف صياغة الخطاب الدبلوماسي البدء بتوجيه ما يسمى بكرة القدم لضربات او ركلات الجزاء، لكي يعيد هذا الطرف التفكير في حساباته. ويعتبر تصويت فرنسا في مجلس الأمن والى حد ما بريطانيا أيضا مع طلب الكويت حماية دولية للفلسطينيين، واحدة من هذا النوع من ركلات الجزاء، كما ان عزل المندوبة الأميركية في مجلس الأمن الدولي في أي مناقشة تدور حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هي مثال آخر عن الدرجة التي بلغها او وصل إليها التعارض في المصالح الأوروبية مقابل إسرائيل وأميركا.
ان ما يحدث إذن، ان هذه دولة كانت يوماً ما مدللة من قبل الغرب، بدأ هذا الغرب وبسبب تطاول احتلالها دونما افق تفقد احترام الجميع لها. وقد تكون إسرائيل كما لاحظ ايمن عودة رئيس القائمة العربية المشتركة في الكنيست قد كسبت دونالد ترامب لكنها خسرت العالم، وان هذا هو التحول المهم الذي سوف يكون له دلالة حاسمة في المنظور القريب.
والواقع ان هذا كان بفعل الصمود الفلسطيني الذي استطاع ان يقهر لا فقط ما بدا انه المستحيل ولكن خيال الإسرائيليين على حد سواء. لكن الواقع أيضا ان من شب على شيء شاب عليه، كما يقال في الحكمة الشعبية، وهذا ينطبق على الأفراد كما الدول، فانهم ما زالوا يراهنون على خروجهم من هذا المأزق التاريخي، وهذه هي أقوال نتنياهو الجديدة او في الطبعة الأخيرة لهذه الأوهام بقوله، وهو لم يزل في لندن أمام احد المعاهد، ان الفلسطينيين لا يمثلون سوى ما نسبته 1% من تعداد الشعوب العربية، والذين يملكون عشرين دولة، وهو ما يعني ربما الرهان على الفوضى في الأردن لكي تكون هي الدولة البديلة عن فلسطين للفلسطينيين. وهو رهان آخر وربما أخير لا يمثل سوى تأصل هذا الوهم القديم، الذي يتحول مع الوقت الى نوع من المرض الذي ليس منه شفاء بالأخير سوى تفشي نزعة تدمير الذات.