ناصر الرباط
الملحمة الفلسطينية المستمرة منذ أكثر من قرن دخلت في السنوات الأخيرة منعطفاً تراجيدياً جديداً. فالفلسطينيون الذين عانوا لعقود من تعنت العالم ورفضه إدانة العدوان الإسرائيلي وقبوله بذرائع التاريخ اليهودي والمأساة اليهودية، وصمدوا مع ذلك، انقسموا على أنفسهم في حفنات التراب الفلسطيني الذي بقي لهم. ثم جاء التراجع الحثيث للدعم العربي، بدءاً بالأنظمة التي لم تعبأ حقيقة في أي يوم بالقضية الفلسطينية سوى في استخدامها كورقة توت للتغطية على تسلطها، ولكن انتهاءً بالشعوب العريضة، التي وإن قدمت من شبابها الكثير من الشهداء الذين ذهبوا أحياناً عبثاً في الحروب المتتالية مع إسرائيل، فإن دعمها لم يتجاوز في أحيان كثيرة الصياح والعويل وبعض التبرعات والتضرع إلى الله لمحق المعتدي الإسرائيلي، مع أن تأييدها كان حقيقياً وعفوياً. وهو الآن قد انقطع تماماً إلا في ما ندر، إما لضجر العرب من الهزائم المستمرة أو لالتهائهم بمآسيهم الداخلية التي تفجرت ثورات وحروباً أهلية وطغياناً متواتراً من أنظمتهم الرعناء.
اليوم أصبح الفلسطينيون المنهكون والمنقسمون وحيدين فعلاً وقولاً في مواجهة الغطرسة الإسرائيلية وآلة الحرب الإسرائيلية المتفوقة من دون ما كانوا يعتمدون عليه من العمق العربي، عمق الإخوة وأولاد العمومة وأبناء الربع وشركاء التاريخ والمصير.
أخذت هذه المواجهة الوحيدة الجديدة أشكالاً مختلفة تحمل في طياتها كل أبعاد الطيف من اليأس إلى التحدي غير الآبه بالخسارة. فهناك طبعاً بين الفلسطينيين من لم يزل يؤمن بالكفاح المسلح كوسيلة وحيدة لوقف العدوان الإسرائيلي على الأرض والناس والتراث، وإن كان تعدي الإيمان إلى العمل قد خفت وبهت أخيراً. وهناك من لم يزل بعد عقود ينتفض ويتظاهر ويحتج في محابسه المسيجة في غزة والضفة ويموت بطلقات القناصة الإسرائيليين بالعشرات في سبيل كرامة مهانة وعودة أضحت بعيدة من الواقع. وهناك من قنع من الغنيمة بالاياب وقبل بالجنسيات الأخرى التي عرضت عليه ليتوطن في بلاد جديدة تمنحه بعضاً من أمان واستقرار، وإن كان أكثرهم يحملون في قلوبهم المكلومة ذكريات التشرد والوطن المفقود. وهناك أيضاً من هؤلاء المشردين في أصقاع الأرض من قد حول الذكريات إلى أفعال وأعمال أدبية وفنية تلهم وتنقل إلى الأجيال الجديدة التي نشأت خارج فلسطين، وإلى كل محبي القضية ومناصريها في العالم، صوراً وكلمات ومواقف وآمالاً بمستقبل أفضل.
واحد من أشكال التعبير هذه عن تبلور الهوية الفلسطينية وتجسداتها الفنية هو الخيال العلمي: هذه الأداة التعبيرية ذات الجذور التاريخية عميقة الغور في مختلف الثقافات (ليس أقلها القصص الديني عن القيامة وأهوالها في الديانات التوحيدية أو الالتحام بالكون في الديانات التوفيقية). وهو أيضاً نوع أدبي نما في المجتمعات الغربية في نهاية القرن التاسع عشر وانتشر انتشاراً هائلاً في القرن العشرين تزامناً مع أزمة الثورة الصناعية وما تسببت به من شروخ في المعتقدات والتوازنات الاجتماعية والاقتصادية والحروب العالمية التي غيرت خريطة العالم وتسببت بملايين الضحايا ثم قادت العالم إلى حافة الدمار الشامل مع سباق التسلح النووي خلال الحرب الباردة. ثم تطور الخيال العلمي أكثر في نهاية القرن العشرين مع الثورة التكنولوجية التي جعلتنا ندرك تماماً ضآلتنا كجنس بشري في كون لا حدود له وأنعشت حلمنا بالتواصل مع عوالم أخرى ربما كانت تنظر إلينا من مجاهرها المكبرة وتستغلنا عن بعد.
لاريسا صنصور فنانة فلسطينية- دنماركية معاصرة (لماذا معظم المبدعين العرب ثنائيو الجنسية؟) اتخذت من أفلام الخيال العلمي أداتها في البحث عن الزمن الفلسطيني الضائع. وهي قد عرضت أعمالها حول العالم ولكنها لم تزل مجهولة نسبياً في محيطها الفلسطيني والعربي. لها هذه الأيام معرض «استعادي» في دار النمر في بيروت «ثلاثية الخيال العلمي» (سيغلق في السادس من حزيران فأسرعوا بمشاهدته) يجمع ثلاثة من أهم فيديواتها عن فلسطين: «خروج إلى الفضاء» (٢٠٠٩)، «الوطن/العقار» (٢٠١٢) و«في المستقبل أكلوا من أرقى أنواع الخزف» (٢٠١٦). وهي كلها أفلام خيال علمي تعالج بحرفية عالية وبمزيج رائع من القلق والصدمة والخيال والحلم والأمل والسخرية المبطنة قصة الفلسطينيين مع وطنهم المفقود وسعيهم الحثيث إلى دحض الدعاية الإسرائيلية التي نفتهم ونفت وجودهم وتاريخهم. الأفلام الثلاثة تتصعد من أمل بوجود فلسطيني ما، ولو على كوكب آخر، إلى الوجود كوطن/عقار يرنو الفلسطينيون منه إلى فلسطين عبر نوافذ تفتح على البعد، إلى الوجود في المستقبل من خلال آثار (الخزف في العنوان) تدل على وجود الشعب الذي حرم هويته في الماضي. وهي كثلاثية تروي بأبلغ تعبير وأعمقه مأساة الشعب الفلسطيني في جلجلته لتبوؤ مقعد في عصبة الأمم التي وإن ناصره معظمها شعبياً إلا أنها عاجزة كدول عن الاعتراف بوطن له ذي حدود واضحة وتراث معترف به.
في الفيلم الأول تنزل رائدة الفضاء الفلسطينية لاريسا صنصور على سطح القمر طابعة علامة نعلها على ترابه في خطوة صغيرة للاريسا وكبيرة لفلسطين. تتجول لاريسا على سطح القمر حاملة علماً فلسطينياً تزرعه في ترابه، بما أنه لا تراب على الأرض ليزرع العلم الفلسطيني فيه، وترنو إلى الأرض البعيدة ملوحة بيدها قبل أن تسقط في الفضاء مختفية في عمقه كنجمة ضمن النجوم. في الوطن/ العقار تصل السوداوية مداها في تحول فلسطين إلى عقار هائل يشمخ عبر جدار الفصل العنصري الإسرائيلي مانحاً الفلسطينيين الفرصة للنظر إلى بلادهم عن بعد وللتمسك بمعالمها عبر مجسمات تمثلها. أما الفيلم الأخير فهو سردية معمقة لدور الأركيلوجيا في صناعة خرافة الشعوب والأوطان ومحاولة آثاريي اليوم الفلسطينيين زرع أدلة على وجودهم على شكل خزف مكسر مطبوعة عليه رسوم الكوفية في سعي إلى البقاء تاريخياً عندما تحول البقاء الوجودي إلى تحد لا قبل لهم بمقارعته.
الأفلام الثلاثة ساخرة بألم، ولكنها أيضاً مطعمة بالأمل: الأمل باستخدام الخيال للتعويض عن الواقع المزري في الحفاظ على ذاكرة فلسطين وفي منح هذه الذاكرة أبعاداً مستقبلية ولو كانت من صميم الأسطورة. لاريسا صنصور، كمارسيل بروست في روايته المطولة، قاصة متفوقة تستخدم لغة الخيال العلمي البصرية برهافة فنية مرموقة لتروي قصتها كإنسانة تنتمي إلى شعب حرم حقه الرمزي بالوجود. وهي أيضاً في سباق مع الزمن، ليس كشهرزاد في سردها لمحاولة إنقاذ حياتها وحياة بنات جنسها، بل للتغلب على هذا الزمن وتطويعه لهويتها عبر استرجاعه في الخيال وفي المستقبل.