يونس السيد
لو لم يتحرك الفلسطينيون في ذكرى «نكبة عام 1948»؛ لمواجهة الاحتلال «الإسرائيلي»، لقيل، ببساطة، إنهم وافقوا على «صفقة القرن»، وربما تخلوا عن أرضهم؛ لكن بما أنهم تحركوا وخاضوا بلحمهم الحي مواجهة أسطورية مع ترسانة السلاح الحديث والمتطور، وخضبوا الأرض بدماء عشرات الشهداء وآلاف الجرحى؛ فذلك حديث آخر، وإن كان يحمل في مضمونه نكبة جديدة.
منذ سبعين عاماً، والنكبة تلقي بظلالها على الفلسطينيين؛ فهي التي ظلت على الدوام «الباروميتر»، الذي يحدد مصيرهم، ويؤشر لمستقبلهم وبقائهم على هذه الأرض، أما استحضار الماضي؛ فهو لتأكيد استمرارية الوجود والانتماء للجغرافيا، والتاريخ الذي يتعرض اليوم، ليس فقط للتزوير، وإنما للاقتلاع من الجذور(الأرض والشعب والهوية)؛ لكن نكبة عام 48 حلت هذا العام بطعم آخر ولون مختلف؛ لتكون شاهداً على نكبة جديدة ومذبحة أخرى تضاف إلى سجل الجرائم «الإسرائيلية»؛ لتجعل من حضورها طعماً أكثر مرارة، ومن لونها أكثر أرجوانية من لون الدم الذي غسل دنس آثار أقدام جنود الاحتلال على الحدود مع قطاع غزة.
استحضار الماضي ليس ترفاً بالنسبة للفلسطيني العادي، الذي لا يزال يحمل مفتاح بيته القديم، الذي استباحته عصابات الاستيطان، ولا بالنسبة للذاكرة الجمعية الفلسطينية، التي لم تمت، كما يتوهم البعض، والتي لا تزال تحلم بالعودة إلى أرضها ووطنها الذي اغتصب وسرق في غفلة من موازين القوى الضائعة آنذاك؛ ولذلك لن يتردد الفلسطينيون أبداً في الرد الجماعي حتى لو كان الثمن على غرار ما دفعوه أخيراً على حدود غزة.
الغريب هنا أن البيت الأبيض لم يظهر فقط بمظهر اللامبالاة؛ بل حمّل الفلسطينيين مسؤولية قتل أنفسهم، في «يوم عظيم» نفذ فيه ترامب «وعده» بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ضارباً شرعة الأمم والقوانين الدولية بعرض الحائط، ومتجاهلاً نكبة الشعب الفلسطيني وحقوقه في أرضه ووطنه، وقاطعاً الطريق على أحلام هذا الشعب في الحرية والاستقلال والعودة وإقامة دولته المستقلة، وكل ذلك باسم «السلام»، الذي يعد بنشره على هذه الأرض، عبر «صفقة القرن» أو غيرها.
النكبة تتجدد كل عام؛ بل في كل لحظة؛ ولكنها هذا العام؛ جاءت لتكون شاهداً على نكبة إضافية بطلها ترامب، الذي وضع المنطقة كلها على مفترق طرق خطر؛ عندما منح القدس بكل ما تعنيه من قداسة وتاريخ في الوعي والوجدان العربي والإسلامي إلى «إسرائيل» ونقل سفارته إليها، متحدياً العالم بأسره، فمن يصدق بعد اليوم وعوده وحديثه عن «السلام». بالنسبة للفلسطيني، من المؤكد والواضح أن محاولات تركيعه وتصفية قضيته فشلت، ولا يمكن أن تنجح؛ بإصراره على الرد جماعياً وفردياً؛ وبدمائه التي لم تجف بعد على حدود غزة، فهي شاهد على ذلك؛ لكن الأكثر تأكيداً هو أن الفلسطيني بدأ يتلمس طريقاً أكثر وضوحاً؛ بعد أن لم يعد يملك غير خيار واحد؛ هو المقاومة.