د.احمد حميل عزم
يمكن الاستنتاج أنّ ما يسمى العصف الذهني الذي أعلن البيت الأبيض عنه بشأن الأوضاع في قطاع غزة، يعكس أنّ الولايات المتحدة الأميركية، لن تعلن ما تسميه الصفقة النهائية، أو أنّها تقوم بالفعل بتنفيذ ما تريد أن تصوره لاحقا، بعد الانتهاء منه على أنّه "صفقة". أفضل السيناريوهات أنّ الجانب الأميركي – الإسرائيلي، ما زال يعمل على "إدارة الصراع"، ولا يفكر بمسألة "حل الصراع"، أما أسوأها فإنّه يريد حل القضية الفلسطينية بالعودة لتعريفها على أنها قضية انسانية لجوعى ولاجئين. ولا يجوز إغفال شق اقتصادي مالي يسعى له فريق الرئيس الأميركي.
بدأ الإعلان عن هذا الموضوع، بمقال نشره مساعد الرئيس الأميركي ومندوبه الخاص لشؤون التفاوض الدولي جيسون غرينبلات، في صحيفة واشنطن بوست، الخميس الفائت، بعنوان "هل تمتلك "حماس" الشجاعة للاعتراف بالفشل؟". ليقول إنّ البيت الأبيض سيستضيف "عصفا ذهنيا" (هذا الأسبوع) لعلاج "المشكلة التي سببتها حماس" نتيجة "حكمها لغزة بقبضة من حديد مدة عشرة أعوام".
من ضمن الأمور التي ذكرها غرينبلات، وهو المحامي المتخصص بصفقات "البزنس" والاقتصاد والمال، والذي على الأغلب سيعود لهذه المهنة بعد أن يخرج موكله الأبرز الرئيس الأميركي دونالد ترامب من البيت الأبيض، أشار في مقاله إلى قطاع الغاز والطاقة في غزة، وسواحلها، الذي يبدو أنه في صلب "العصف الذهني" المخطط. وقال إنّ الولايات المتحدة، ودول أخرى، تواقون للمساعدة في تنمية اقتصاد غزة، لتعتمد على مواردها في حل مشكلاتها. وقال صراحة إنّ الولايات المتحدة، وإسرائيل، ومصر ستستفيد من تنمية اقتصاد غزة، وليس فقط "الفلسطينيون (ومن ضمنهم السلطة الفلسطينية)". ولا يمانع غرينبلات من دخول "حماس" لأي حكومة مستقبلية شريطة نبذها العنف، واعترافها بإسرائيل، وباتفاقيات السلام الموقعة، وإعادة "الجنود الإسرائيليين المفقودين". وادّعى غرينبلات أنّ حل المشكلة في غزة "خطوة لحل المشكلة الكبرى"، وإلى "السلام الشامل".
هذا الطرح بغض النظر عن البعد التجاري والاقتصادي المحتمل فيه، يثير أولا سؤالا، لماذا لم يطرح غريبنبلات وفريق ترامب المكلف بالموضوع الإسرائيلي الفلسطيني الصفقة النهائية، أو المبادرة التي يتحدثون عنها منذ أكثر من عام؟ فالأجدى كان أن يحل شأن غزة مع حل مجمل الموضوع الفلسطيني.
في الواقع أنّ الحديث عن الطاقة والغاز بوابة لحل مشكلات غزة المعيشية، لا يبشر حتى بمجرد فصل غزة عن الضفة الغربية، أو تخفيف الحصار، أو تحرير القطاع من الاحتلال، بل هو تصور يحمل في ثناياه مخطط عودة إسرائيلية إلى غزة، باسم الاقتصاد والمشاريع المشتركة.
من جهة ثانية، توضح الفكرة أنّ طروحات مثل السلام الاقتصادي، وإدارة الصراع، هي ما يفكر به الأميركيون والإسرائيليون. وهو اقتصاد يبقي الأولوية والمكاسب للإسرائيليين أيضاً. بل إنّ غرينبلات يقول في مقاله إن السلام الشامل يتضمن "تقوية أمن إسرائيل وإعطاء الفلسطينيين فرصة لمستقبل مزدهر". فالحديث عن الازدهار تلميح آخر للاقتصاد والظروف المعيشية.
خطة غرينبلات، فيما تحمل في ظاهرها هجوماً على "حماس" فإنّها تغازل الحركة، بأنّ الأوضاع هناك يمكن أن تتحسن وتزدهر إذا أعلنت الحركة مواقف سياسية معينة، وهو لم يشترط مثلا وحدة الفلسطينيين، أو يعتبر السلطة الفلسطينية هي المعنية بالأمر. فالمقال/ الخطة بذلك نوع من جس النبض لحماس. تماماً مثلما يشكل جس نبض للسلطة الفلسطينية، ومنظمة التحرير الفلسطينية، باحتمال تراجعها عن مقاطعة الإدارة الأميركية، وخصوصاً مقاطعة أمثال غرينبلات، والسفير الأميركي- الإسرائيلي لدى ديفيد فريدمان، من خلال بوابة مناقشة القضايا المعيشية. وهي جس نبض للطرفين "حماس" و"السلطة" لإمكانية أن يقبل أحدهما بالعمل ضمن هذه الخطة، وهي ذات شق مالي اقتصادي واضح، فيقبل أحد الطرفين العمل ليسجل نقطة ضد الطرف الفلسطيني الآخر، ويتخلص من المصالحة.
خطة غرينبلات أعمق من مجرد منع الأوضاع في غزة من الانفجار، فيها مخطط يتعلق باقتصاد الغاز، وهي مؤشر أن هذه الإدارة لا تنوي طرح مبادرة سلام شاملة، بل خطط لتسكين وإدارة الصراع، أو لفرض تصورها وخططها لإخماد الصراع على أرض الواقع بتجزئة القضايا وفرض تصوراتها فيها، كما حدث بموضوع القدس، ويتوقع أن يحدث مع المستوطنات.