هاني المصري حسناً فعلت اللجنة التنفيذية للمنظمة عندما لم تسارع إلى تحديد موعد انعقاد المجلس الوطني وفقاً للتوصية التي رفعتها اللجنة المركزية لحركة فتح. فما الذي حدث في الأيام القليلة الفاصلة بين الاجتماعين، التي أدت إلى تأجيل محدود،
وربما طويل الأمد يعتمد على جملة من التطورات، منها ما يتعلق بانتظار رؤية ما يحمل الوفد الأميركي القادم بعد أيام، فعقد مجلس وطني يؤكد على قرارات المجلس المركزي، وخصوصاً وقف التنسيق الأمني و"إعادة بناء العلاقة مع إسرائيل باعتبارها دولة احتلال استعماري استيطاني يمارس الأبارتايد والتطهير العرقي" كما جاء في بيان اللجنة التنفيذية الأخير، وعلى تفعيل عضوية فلسطين في محكمة الجنايات الدولية، لن يعجب إدارة دونالد ترامب ولا الحكومة الإسرائيلية ولا العديد من حلفائهم في المنطقة العربية.
ومنها ما يتعلق بضرورة استنفاد الحصول على النصاب السياسي، أي مشاركة فصائل منظمة التحرير، وخصوصًا الجبهتين الشعبية والديمقراطية، الذي يعتبر عقد المجلس من دونهما أو من دون الشعبية ناقصًا، ومن السهل التشكيك في شمولية تمثيله، لا سيما في ظل عدم دعوة حركتي حماس والجهاد.
ومنها ما يتعلق باتفاق "فتح" على من يمثلها في رئاسة المجلس الوطني وعضوية اللجنة التنفيذية الجديدة في ظل كثرة المتنافسين، ومرض أمين سر اللجنة التنفيذية وحاجته إلى عملية يتضح بعدها مستقبله السياسي.
ومنها ما يتعلق بأن قرار عقد المجلس الوطني ليس قرارًا فلسطينيًا فقط، وإنما بحاجة إلى غطاء عربي ودولي، وخصوصًا من القاهرة التي يشوب بعض التوتر علاقتها مع القيادة الفلسطينية.
جرت محاولة لعقد المجلس بمن حضر في العام 2015 بعد تقديم الرئيس وعدد من أعضاء اللجنة التنفيذية استقالتهم لضمان عقده، ولكنها لم تنجح جراء الخلاف الفتحاوي الداخلي، وقرار الجبهة الشعبية بالمقاطعة، ومعارضة أعداد كبيرة من الفلسطينيين الذين وقعوا على عريضة طالبت بالتأجيل وعقده بعد التحضيرات المطلوبة لكي يكون مجلسًا وطنيًا توحيديًا، وليس خطوة من شأنها تكريس الانقسام ومدّه ليصل إلى المنظمة.
عقد المجلس الوطني ضرورة وطنية تزداد إلحاحيتها كل يوم، لا سيما في ظل المخاطر التي تهدد القضية الفلسطينية، وتفاقم الانقسام وتحوله رويدًا رويدًا إلى انفصال بما يهدد وحدانية التمثيل الفلسطيني، شرط أن يكون عقده خطوة إلى الأمام تهدف إلى استنهاض الشعب، وتوحيد قواه على أساس برنامج جديد، وتجديد الشرعية، وإعادة بناء الحركة الوطنية، وليس أن تنحصر الأهداف من عقده بهندسة مؤسسات المنظمة على مقاس شخص واحد أو فصيل واحد، والتأكيد على البرنامج السياسي المعتمد منذ أوسلو وحتى الآن بالرغم مما أوصلنا إليه من كارثة، واستبدال أشخاص بآخرين أكثر طواعية، والاستعداد لاستخدام المنظمة باعتبارها المنشئة للسلطة لسد أي فراغ ينشأ بغياب الرئيس، أو استباق أو الرد على عقد مجلس تشريعي بمشاركة كتلة التغيير والإصلاح والنواب المحسوبين على محمد دحلان من خلال رفع الحصانة أو حل المجلس التشريعي بقرار من الحكومة الدستورية وبتغطية من المجلس الوطني.
نرحب بقرار مواصلة المشاورات رغم ضرورة وإلحاحية عقد المجلس، لأن "سلق" عقده بعد مضي أكثر من عشرين عامًا على عقد آخر جلسة عادية، والإصرار على أن يعقد في رام الله وعبر الفيديوكونفرنس مع بيروت فقط وتجاهل غزة التي تضم عددًا كبيرًا من أعضاء المجلس، يعني الإمعان في تقزيم المنظمة الذي بدأ منذ توقيع اتفاق أوسلو تحت وهم أن الدولة على مرمى حجر، وأن المنظمة لم يعد لها حاجة، وإبقاؤها يستهدف التوقيع على الاتفاق النهائي باسم الشعب الفلسطيني، وتحويلها إلى مجرد فريق سياسي صغر أو كبر وليست الكيان الوطني الجامع والممثل الشرعي الوحيد.
وللبرهنة على ما تعرضت له المنظمة من إهمال يكفي القول أولاً أنها جُمدت عمليًا، إذ لم يعقد المجلسان الوطني والمركزي إلا في حالات قليلة جدًا، وخصوصًا بعد فوز "حماس" في الانتخابات التشريعية، فجرى تفعيل جزئي للمنظمة كونها خارج نفوذ "حماس"، وثانيًا أنها أصبحت ملحقة بالسلطة التي نُقلت إليها المسؤولية عن السفارات، وأصبحت موازنتها مجرد بند صغير ضمن موازنة السلطة.
تأسيسًا على ما سبق، لم يمنع عقد المجلس الوطني طوال هذه الفترة الطويلة كما يدعي البعض فيتو من الفصائل من داخل المنظمة وخارجها. فما الذي كان يمنع عقده قبل "إعلان القاهرة" في آذار 2005 الذي وقعته المنظمة مع "حماس" و"الجهاد"، وتضمن اتفاقًا على انخراطهما في المنظمة.
إن ما منع إحياء المنظمة الخشية من أن يؤدي ذلك إلى الإضرار بفرص التوصل إلى اتفاق سلام، لأن إحياءها يستدعي الحقوق الوطنية كافة التي تمثل الشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده، وهذا يمكن أن يسبب تغييرًا في الموقف الفلسطيني إزاء عملية السلام، ما سيؤدي إلى سحب الاعتراف بالجانب الفلسطيني كشريك لإسرائيل في صنع السلام، ويُصعّب إمكانية التوصل إلى اتفاق أقل حتى من الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية.
لقد نصّت وثائق الإجماع الوطني من "إعلان القاهرة" و"وثيقة الأسرى"، إلى "اتفاق المصالحة" وملحقاته على مشاركة مختلف الفصائل في المنظمة، وعلى عقد مجلس وطني توحيدي، يتم اختيار أعضائه بالانتخاب حيثما أمكن وبالتوافق الوطني حيثما يتعذر إجراء الانتخابات، والاتفاق على تشكيل إطار قيادي مؤقت، عقد اجتماعين بمشاركة مختلف الفصائل، وكُلّف بمهمات عدة من ضمنها التحضير لعقد المجلس الوطني.
يكمن الخلل عندما تم الاتفاق على مشاركة "حماس" و"الجهاد" في السلطة والمنظمة أن ذلك تم دون الاتفاق على جملة من الأسس والقواعد والشروط التي من المفترض أن يلتزم بها الجميع، وخصوصًا أن الميثاق الوطني عُدل، وإن لم تستكمل عملية التعديل قانونيًا وإجرائيًا، وتحطم برنامج أوسلو، ففشل فشلاً ذريعًا ولم يقد إلى دولة وإنما إلى تعميق الاحتلال.
إذا كان الانتماء إلى أي نادٍ أو اتحاد أو حزب أو نقابة أو مؤسسة أهلية أو خاصة تضع شروطًا للعضوية تحدد حقوق الأعضاء وواجباتهم، فكيف تكون المشاركة في السلطة والمنظمة بلا شروط وقواعد ناظمة!
لا يعني ما سبق أن من شروط الانضمام إلى السلطة والمنظمة الموافقة على اتفاق أوسلو والتزاماته، لأن هذا يتنافى مع مصلحة القضية الفلسطينية ومبدأ التعددية والتنوع والمنافسة الذي يضمن حق الاختلاف، ولكن حتى نكون في كيان واحد لا بد من الاتفاق على برنامج سياسي يجسد القواسم المشتركة، وطبيعة المرحلة والأهداف وأشكال العمل الرئيسية، وكيفية مواجهة التحديات والمخاطر وتوظيف الفرص، وعلى أن قرار السلم والحرب قرار وطني لا يستطيع شخص أو مجموعة أشخاص أو فصيل أو فصائل عدة أن تقرر بشأنه وحدها، والاتفاق على ميثاق وطني يحفظ الحقوق الوطنية والرواية التاريخية، وعلى أسس المشاركة السياسية، وأهمية الاحتكام إلى الشعب بوصفه مصدر السلطات عبر الانتخابات على مختلف المستويات والقطاعات. فالخلاف الطبيعي والتنوع في الآراء من الضروري حمايته ورعايته لأي حركة تحرر وطني شرط أن يكون في إطار الوحدة، وخلاف ذلك يعني التقاتل والشرذمة وازدواج التمثيل والقيادة والسلطة والبرامج.
تخشى "فتح" من دخول "حماس" إلى المنظمة لأنها ستنافسها وتنازعها على المؤسسة، مع احتفاظها بسيطرتها الانفرادية على قطاع غزة، لذلك منعت مشاركة "حماس" في المنظمة من خلال عدم تفعيل الإطار القيادي المؤقت، كما جمّد الرئيس أعمال اللجنة التحضيرية لعقد المجلس الوطني التي اجتمعت في بيروت في شهر كانون الثاني الماضي.
وإذا كان الاتفاق على المجلس الوطني التوحيدي متعذرًا الآن مع أنه المفضل والمطلوب، فالبديل لا يجب أن يكون القفز في المجهول وفتح أبواب الصراع على مصاريعها، وإنما بالاتفاق على مجلس وطني قديم مجدد تشارك فيه "حماس" من خلال أعضائها في المجلس التشريعي، وأعضاء آخرين يمثلونها والجهاد تحت بند المستقلين، يقر برنامجًا سياسيًا قادرًا على مواجهة المخاطر القائمة، على أن يتم سلفًا الاتفاق على توفير متطلبات عقد مجلس وطني توحيدي خلال مدة أقصاها عام.